الأربعاء، 22 أبريل 2015

حياة رجل



حياة رجل

كان الدكتور عرفى من أعز أصدقائى ، كان صديقى فى المدرسة ، وزميلى فى معهد شوبير الموسيقى ، ورفيقى فى كل مكان .. وهو الذى أغرانى بتعليم الموسيقى ، وركوب الصعاب فى سبيلها ، ثم هو الذى جعلنى أنفض يدى منها ، وأتخلف عن الركب فى أول الطريق ..
وكان يقول بعد الدرس ، وعلى شفتيه ابتسامته التى لم تكن تفارق ثغره أبدًا :
 "أنا أفهم أننى أستطيع أن أستظهر لامية العرب للشنفرى ، أو بائية النابغة الذبيانى ، أو معلقة الأعشى .. أما أن أستظهر مقطوعات موسيقية برمتها ، وأؤديها عن ظهر قلب كما لو كانت قصيدة من الشعر ، فذلك مالا يطاق .. هارمونى .. سلفيج .. سأظل ثلاثين سنة لا أفرق بين الدودييز والدوناتوريل ..! لماذا كتب علينا هذا المصير ..! "
ومع كل دعاباته ، وما كان يركب به الناس من مجون .. فقد ثابرنا وواصلنا الدرس ، ولم نتقدم لا كثيرا ولا قليلا ..! وكان ينظر إلى مدرس الكمان ، ويقول :
- أتذكر بائع البسطرمة فى شوارع استنبول .. إنه صورة ممتعة لا نظير لها إلا مدرسنا هذا ..! كيف يدرس هذا الموسيقى وروحه أبعد شيء عنها ..؟ وليس فيه طبع الفنان ، وما له سمته .. لماذا كتب علينا هذا المصير ..!
       وحضرنا حفلة غنائية لأول مرة ، وآخر مرة فى حياتنا ..
       وصفق الناس للمغنى ، وكادت الأكف أن تطير فى الجو من فرط الحماسة .. مع أنه لم يقل شيئا سوى أنه تأوه .. وتأوه .. ثم تأوه .. وقال كلاما لا معنى له ، لا هو بالشعر .. ولا هو بالنثر .. وإنما هو أشبه بنواح العجائز .. وتغير وجه صاحبى ، وظل فى مكانه يتميز من الغيظ .. ثم انتفض .. وجذبنى من سترتى وهو يقول :
- هيا بنا .. كيف أقبل على نفسى أن أكون بهلوانا لهؤلاء الحمقى ..؟ فلنرح أنفسنا من هذا العناء .. لقد ألفوا التهريج وغدا من طباعهم .. وكل فنان حقه مضيع فى هذا البلد .. ومما يحز نياط القلب أن هذه القرود تتحكم فى مصير الفنانين .. فلنرح أنفسنا من هذا النصب .. وليس هناك سوى بيتهوفن واحد كما تعرف ، وعالم الموسيقى لن يخسر شيئا إذا حدنا عن الطريق ..
وقد كان ..
***
       وكان يدرس الطب ، وكنت فى قريتى أعمل فى الحقول .. وكان أشق الأشياء على نفسه أن يكتب رسالة لإنسان .. فانقطعت عنى أخباره عدة سنوات .. ثم عدت إلى القاهرة ، وبحثت عنه فى كل مكان فلم أجده .. فتصورته فى عداد الموتى .. إلى أن ذهبت فى عمل إلى السويس ، فرأيته جالسا على حجر فى طريق الزيتية ، وعينه إلى الجبل ، وقد تراكمت عليه السحب ..
       وكان فى سكون طائره ، وهدوء نفسه كأنه تمثال .. ولما وقع نظره علىّ ، رفع وجهه قليلاً ، دون أن يتحرك من مكانه ، وكأننى كنت معه على ميعاد ، وقال وهو يبتسم :
- كنت أعرف أنك ستأتى إلى هذه البلدة ، فقد تلفت أعصابك من القراءة والكتابة ، وضياع العمر فيما لا يجدى ..!
***
       ومشينا إلى مشرب من مشارب الجعة لنتعشى ، وقال لى على العشاء :
       - أطبعت شيئا جديدا يا رشاد ..؟
       - لم أفكر فى ذلك ..
       - حسنا تفعل .. إنه ضياع لعمر الشباب فيما لا خير فيه .. وهناك طرق أخرى للانتحار أسرع من هذه التى اخترتها لنفسك ..!
       - ولكن لابد مما ليس منه بد ..
       - هذا هراء .. ولقد فقدت الإيمان وهو عدة الفنان .. أنسيت بائع البسطرمة فى شوارع استنبول والقرود الهاذرة فى كل مكان ..! إنه عناء ونصب ، ولا جديد تحت الشمس..
       وصمت وعاد إلى الكأس .. وكان أبيض كوسجا رائع المظهر ، حسن السمت ، ساكن الطائر أبدا ، كأنما صبت أعصابه فى قوالب من حديد .. وكانت عيناه أول ما يروعك من حسنه .. كان سوادهما شديدا وبريقهما أخاذا .. إذا نظر نفذ بهما إلى السويداء .. وإذا سدر ببصره خلته يتأمل من فرط السكون الذى يشيع فى معارف وجهه ..
       وكان ينظر إلى المرأة عن عرض ويحتقرها فى أعماق نفسه .. ومع ذلك فقد كانت دائما تلوذ بكنفه ، وترتمى تحت قدميه .. وهى فى نظره أبسط من البساطة إذا ما توجهت إليها من أقصر طريق .. وأخلق بمن يدور حولها ، كما تدور الرحى حول قطبها ، أن يصيبه الدوار قبل أن يبلغ القصد ..
       وكان يشرب الجعة كما يشرب الماء .. يعب فيها عبا ، ولعله ما كان يجد للماء مذاقا فى فمه بعدها ..! وكان يستغنى بها عن العشاء وعلى كثرة ما كان يشرب منها لم يكن يثمل ، أو يفقد توازنه ، أو يغيب عن وعيه .. وكل ما كان يحدث له هو أن تلتمع عيناه ، ويبدو سوادهما على أشده ..
       ونظرت إلى وجهه ، وهو يرفع الكأس إلى شفتيه .. وعدت أذكره عندما كان طالبا صغيرا فى المدرسة ، ناحل الجسم وادعا .. رقيق الحس ، متيقظ المشاعر ، يقف بعيدا عن التلاميذ تحت شجرة الجميز فى فناء المدرسة .. وبيده ديوان من الشعر .. وكان يقرأ ويستظهر .. ويرسل بصره إلى الحقول المجاورة .. فإذا دق الجرس ، كان آخر إنسان يدخل الفصل .. وآخر جالس فى الصف .. وآخر تلميذ فى الترتيب .. وكان إذا ابتدأ المدرس فى الدرس ، ابتدأ هو يسبح فى ملكوته ، وغاب ، واستغرق فى تأملاته ، ولم يكن ينتبه لكلمة واحدة مما يقوله الأستاذ .. فإذا جاءت سيرة الشعر ، أو الموسيقى تنبه من غفلته ، وانتفض كما ينتفض الطير اذا أصابه القطر ..
       ذكرت هذا كله ، وأنا الاحظه بعينى ، وهو يعب فى الجعة ..
       وسألته :
       - لماذا تتحامل على الآداب والفنون هكذا ..؟ وكيف تنسى أيام الصبا .. وكيف تنسى الشعر والموسيقى ..؟ لقد غيرتك الجعة ..
       - إنها ليست الجعة .. أنت تعرف أن حادثًا بسيطًا يقع فى حياة الإنسانية قد يغير وجه التاريخ .. وكذلك الإنسان قد يعرض له حادث تافه فيغير مجرى حياته .. يغير نظرته للأمور ويبدله تبديلاً ، ويخلق منه رجلا آخر ..
       أتذكر السيدة جراسيا الكاتبة الأجنبية التى زارتنا فى المعهد .. أنا مدين لهذه المرأة بكيانى ووجودى .. لقد فتحت عينى على حقائق الوجود .. أتذكر هذه المرأة ..؟ لقد دعوناها للعشاء كما تعرف ، وسافرت هى إلى أسوان ، وسافرت أنت إلى القرية ..
       وفى صباح يوم من أيام الشتاء كنت سائرًا وحدى فى شارع سليمان باشا وسمعت من يهتف باسمى فتلفت .. فوجدتها هى .. وكانت معها سيدة أخرى أصغر منها سنا ، وأنضر وجها ..
       وقالت فى صوت رقيق :
       - أتذكرنى ..؟
       - بالطبع يا سيدتى ..
       وأحنيت رأسى .. وكان الخجل قد جعلنى مضحكا ..! ولاحظت ذلك فابتسمت ، وقدمتنى إلى السيدة التى معها .. فسلمت تسليم البشاشة ..
       وأعطتنى السيدة جراسيا عنوانها ، ودعتنى إلى زيارتها فى مساء اليوم التالى فى الفندق ..
***
       وفى المساء كنت هناك فى غرفتها ..
       وأخذنا نتحدث عن الموسيقى والشعر والريف المصرى ، ثم خرجنا إلى بهو الفندق الكبير ..
       وجلسنا إلى مائدة صغيرة فى ركن قصى من البهو .. ومع هذا .. ومع أن المكان لم يكن مكتظا بالناس فإنى شعرت بالاختناق .. وتصورت أن عيون الجالسين تتجه نحوى ، وأننى غدوت محط أنظارهم جميعًا .. وكان لى عذرى فى هذا ، فقد كان هذا أول عهدى بالمجتمعات ، وأول مرة فى حياتى أجلس فيها مع سيدة فى مكان عام ..
       وجاء الساقى ، وطلبت كأسين من النبيذ ..
       فقلت لها ، وأنا أذوب خجلا :
       - أرجو معذرتى .. إننى لا أشرب ..
       - إنك لست بالصغير جدًا كما تتصور .. وستصبح فنانًا .. ويجب أن تشرب ..
       - أرجو أن تعفينى من هذا ..
       - إن كأسا واحدة لن تقتلك ..! وسترى أنه ألذ شيء .. 
    وشربت كأسا .. وكأسين .. وثلاثة .. وأحسست بالدفء .. وزايلنى الخجل ، ولم أعد أحفل بشيء مما حولى .. ونظرت إلى السيدة من جديد .. ورأيت فى عينيها بريقًا أخاذًا ، وإغراء فاتنا .. وأخذت أجردها ، بعين الخيال ، من ردائها الصوفى السميك ، وأتصورها فى غلالة رقيقة ، وقد استراحت بصدرها على صدرى ، ويدى تمر على شعرها ، وتمسح على خديها ..!
       واتكأت بمرفقها إلى المائدة ، وقالت لى فى صوت موسيقى :
       - أتشعر بتعب ..؟
       - لا .. بل أشعر بسعادة حقة ..
       - لماذا ..؟
       - إنك تعرفين السبب ..!
       - أنا لا أعرف شيئًا .. قل كل ما تشعر به .. ولا تخجل ..
     فأطرقت برأسى وأحسست بأناملها الرقيقة تمر على أناملى .. رفعت وجهى إلى وجهها .. وكانت تضحك ..!
       وسألتنى فى صوت يسيل رقة وعذوبة :
       - كم عمرك ..؟
       - سبعة عشر عاماً .. 
       - هذا ما قدرته .. عندما وقع نظرى عليك لأول مرة .. رأيت فيك صورة أعرفها .. كنت فى سكونك وهدوء نفسك وملامح وجهك ، كشيلى تمامًا .. وقد سألت الأستاذ عنك .. ولم أعجب عندما قال لى أنك تقرض الشعر وتجلس طول الوقت حالمًا .. مستغرقًا فى تأملاتك .. فقد كنت على يقين من أنك هكذا .. ولما دعوتنى مع صاحبك للعشاء فى اليوم التالى .. سررت جدًا .. لأننى كنت أحب أن أراك .. وأكبرت فيك هذه الجرأة ، ولكن يبدو لى أن هذه الجرأة كانت من صاحبك .. فأنت شديد الخجل سريع النسيان .. فقد كدت لا تعرفنى عندما قابلتك أمس فى الشارع ..
       - لم أكن نسيتك .. ولا يمكن أن انساك .. وهناك وجوه لا تنسى .. ولا أحد يستطيع أن ينسى هذا الشعر وهاتين العينين ..
       - صحيح ..؟
       - صحيح ..
       - أكنت تذكرنى ..؟
       - دائمًا ..
       - وتود أن ترانى ..؟
       - أجل ..
       - وهل فكرت فى .. كما فكرت فيك ..؟
       - فكرت كثيرًا .. وتخيلت .. وحلمت ..
       - أما أنا فقد كتبت لك رسالة .. وهى الآن فى غرفتى .. وستقرأها يومًا ما .. وتعرف لماذا كتبتها .. ولماذا أقول لك كل هذا الكلام .. والآن هيا بنا ..
       وبارحنا المكان ..
       وودعتها على سلم الفندق ..
       وقالت لى :
       - ستجئ غدًا ..
       - وبعد غد .. وكل يوم ..
       - وحدك ..؟
       - وحدى ..
       وفى اليوم التالى ذهبت إليها وكانت فى انتظارى بغرفتها .. وكانت فى أبدع زينة وفى ثوب من المخمل الأزرق ، وقد زادها فتنة ، وأكسب وجهها سحراً فوق سحره ..
       وجلست على الأريكة ، وأجلستنى بجوارها .. وأخذنا نتحدث عن بيتهوفن ، وفاجنر ، وموزار .. ونقرأ شعر شيلى .. وكان صوتها رقيقًا ، وحديثها عذبًا ، وكنت مأخوذا  بسحر جديد ، وجو غريب لم آلفه .. وشعرت بروحى تتشرب من رحيقها ، وبنشوة لذيذة تسرى فى كيانى كله ..!
       وسألتنى :
       - أقرأت الخيام ..؟
       - أجل .. اكثر من مرة ..
       - إن عندى نسخة إنجليزية نادرة الطبع .. وهى أعز علىّ من نفسى .. وقد وضعت رسالتك فيها ..
       ونهضت .. وفتحت حقيبتها .. وأخرجت الديوان .. ووضعته على المائدة .. ثم وقفت أمام المرآة لحظات ، ومرت بيدها على جبينها ، وحلت شعرها .. فانسدل طويلاً على ظهرها وكان أسود كالليل ، ومتموجا براقًا كصفحة الغدير .. وكان أبدع شيء فيها ، وكانت تعرف تأثيره وسحره على صبى فى مثل سنى ..
       وعادت وجلست بجوارى ، وفتحت الكتاب .. وقرأنا .. وأمسكت بيدها وتوقفت عن القراءة .. وظللنا ساكنين ..
       ورأيت نفسى أرفع يدى إلى ذراعها .. وأحسست بجسمى ينتفض .. وكنت غرًا وصغيرًا ، وكانت أول امرأة فى طريقى ..
       ونظرت إلىّ ، وقالت وهى تبتسم :
       - لماذا ترتعش ..؟
       فلم أجب ..
       وضحكت ضحكة ناعمة ، وقربت وجهها من وجهى ، حتى كاد شعرها يلمس جبينى ، وقالت فى صوت خافت :
       - كيف تواجه الجماهير بهذه الأعصاب .. وهذا الحياء الشديد .. إن هذا محزن ..؟
       وبعد عذاب وجهد شديدين استطعت أن أضع فمى على فمها ..
       ونزلت من الفندق ، وسرت فى شوارع القاهرة على غير قصد .. وأنا أشعر بقوة عظيمة ، وحيوية لم أعهدها فى نفسى من قبل ، وكانت روحى قد بعثت من رقادها ، وبراعم نفسى قد تفتحت ، وقلبى قد تحرك لأول حب ، وشفتاى قد ارتعشتا تحت شفتى امرأة .. ومضيت فى الطريق . وأنا أردد كلماتها وأسائل نفسى .. لماذا لا أستطيع أن أواجه الجماهير ..؟ ولماذا أفكر كثيرًا ولا اعمل شيئًا .. لماذا أفكر فى التوافه من الأمور دائمًا ، وارتعش عندما يلمس جسمى ذراع امرأة ..! لماذا أعض على النواجذ ، وأندم على ما فات ، ولا أفكر فيما هو آت ..؟ لماذا أتردد بعد كل خطوة .. وأعيش على هامش الحياة ، حالمًا كالشعراء المجانين ..! لماذا كل هذا ..؟  لأن أعصابى ممزقة ، وجسمى ناحل ، و رأسى مشحون بالأوهام ..
       وفى اليوم التالى كنت فى أحد الأندية الرياضية ، أجدف فى النيل ، وأجرى فى الهواء الطلق ، وأسبح فى الماء ، وألعب بالكرة .. وبعد شهور شعرت بجسمى يتغير ، وذهنى يصفو ، ولم أعد أفكر فى التوافه من الأمور ، ونظرت إلى الحياة من جديد .. وزاد احتقارى للإنسان بعد أن دخلت مدرسة الطب ، وأخذ مشرطى يعمل فى جسمه ، ويمزق قلبه ..!
       ونظرت إلى كتب الآداب فى بيتى ، وأسفت على هؤلاء الكتاب المساكين .. دستويفسكى .. غوركى .. أندريف .. هنريخ مان .. دكنز .. الجاحظ .. الأصفهانى .. المعرى .. ابن الرومى .. إنه الحس المرهف .. إنها العبقرية الفذة .. إن هؤلاء هم خلاصة الذكاء البشرى .. ولكنهم تعذبوا كثيراً فى سبيل سعادة المجتمع .. وماذا أفادوا ..؟ .. لاشيء .. تماثيل فى الميادين ..!  هذا هراء ..
       إن خيرًا من هؤلاء جميعًا ديماس الأكبر ، لأنه كان ضخمًا ، وفى جسم الثور .. وكان يأكل فخذ عجل ، ويكتب كل يوم كتابًا ، إنه أدب أجوف ، ولكنه أدب الجماهير ، وأدب الذين يستلقون على الأرائك ، ويسخرون من آلام البشر ..
       ماذا جاء بعد هؤلاء الأبطال .. حضارة القرن العشرين .. موسيقى الجاز .. أندية العرى .. المواخير فى كل مكان .. والتحرر من كل قيد .. والهستريا الجنسية .. الدنيا ماضية فى جنونها يا صاحبى .. والشخصيات الفذة فى تاريخ البشرية لن تتكرر ، والناس يحلمون بعصر ذهبى ، ولكن هيهات .. فقد انقضى عهد الأنبياء ، ومات عمر بن الخطاب منذ قرون وقرون .. ولن يجئ عمر آخر فى تاريخ البشرية ، والناس يسعون لغرض أسمى .. ولكن هيهات .. فالقوى سيظل يسحق الضعيف ، ومن بين كل ألف مجرم يقع مجرم واحد فى يد العدالة ، ويمضى الباقون تحت عين الشمس ..
       الدنيا ماضية فى جنونها .. رغم كل شيء .. وهل أنت أسعد حالاً الآن من إنسان الغاب ..؟  أبدًا .. وماذا تفيد الكيمياء والكهرباء إذا لم تسخر لسعادة الإنسان ..؟ كل ما تسمعه عن العصر الذهبى للإنسان هو باطل الأباطيل ، فالشقاء سيظل سرمديا ..
***
       وزرته مرة فى مسكنه الجديد فى الطابق التاسع من إحدى العمارات الكبيرة فى القاهرة .. فرأيت باب شقته مفتوحًا ، والبواب خارجاً منها يتمتم .. وكان هو جالسًا فى الشرفة ، وأمامه زجاجة من الجعة ، وعينه إلى الطريق ..
       وحييته وجلست ، وأنا أضحك ، فسألنى :
       - لماذا تضحك .. أرأيتها ..؟
       فأجبته وقد استغرقت فى الضحك :
       - لا .. وإنما رأيته هو ..
       ثم أردف :
       - البواب ..؟ .. إنه أحمق ..
       - ولماذا أعطيها ..!
       - هذا توحش .. إنها فقيرة .. ولم تصعد إلى الطابق التاسع لتشاهد مجموعة صور روفائيل ..
       - عدنا إلى الفلسفة .. فقيرة .. لماذا لا تغير طريقة حياتها وتنهج نهجًا مستقيمًا ..! لماذا تصبر على الضيم ..! أنا لست مسئولاً عن هذه الحشرات ..
       وكان الجدال ، مع رجل هكذا شأنه وطريقته فى الحياة لا يجدى ، فصمت وعاد إلى الجعة ..
***
       وكان الليل قد أقبل ، وبدت المساكن المحيطة بنا تعلوها جهامة الحرب .. وسمعنا صفارة الإنذار .. وسرت فى جسمى رعشة .. وتحركت من مكانى ، وتمشيت قليلاً ، ثم عدت ، وقد أخجلنى أنه لم يتحرك ، ولم يغير مجلسه ، ولم يدع كأسه من يده .. ولم تضطرب فيه جارحة ..!
       وبقيت جالسًا فى مكانى .. وغاظنى صمته ورباطة جأشه .. وكنت أود أن أتحرك ، أو أتحدث ، فقد كانت وطأة الصمت ثقيلة على نفسى ، وكانت الغارة تقترن فى ذهنى دائمًا بالأشلاء الممزقة .. والأجسام المدفونة تحت الأنقاض ، والذاهبة فى الجو إربا ، وكل ما هو من هذا بسبيل ..
       وأخذت ألعن الحرب ، وما جرته على الإنسانية من ويلات .. وألعن صاحبى فى سكونه وقوة أعصابه .. وأدركت بعد هذا السكون العميق ، وفى خلال ذلك الصمت الشديد .. لماذا يستمع الناس للموسيقى أثناء الغارة .. ولماذا يمزحون ويضحكون .. فإن الصمت والسكون فى هذه الساعة الرهيبة معناه قتل النفس ، وتمزيق الأعصاب والسير فى طريق الجنون وسمعنا .. صوت المدافع المضادة .
       فسألته :
       - ألا تنزل إلى المخبأ ..؟
       فأدار رأسه ، وكان يبتسم ، وقال فى صوت هادئ :
       - مخبأ إذا شئت أن تنزل فانزل ، أما أنا فسأبقى هنا ، وما من شيء سيجعلنى أتحرك من مكانى .. حتى ولو انطبقت السماء على الأرض ..! أنا طبيب يا رشاد .. وطبيب نفسانى قبل كل شيء .. وأقول لك إن تسعة أعشار ضحايا الغارات الجوية من منخلعى القلوب .. الذين يرتعدون فزعًا من لاشيء .. والغارة قلما تصيب الرجل الكامل الحواس بسوء قط .. وأنت تسمع عن الحاسة السادسة للجندى فى الميدان .. إنها اليقظة .. يقظة الحواس .. فتيقظ واجلس فى مكانك آمنا ..
       - ألا تفكر فى أنك قد تصاب بسوء ..؟
       - إن هذا لا يغير من الأمر شيئا .. ولن أرقد فى حياتى إلا رقدة واحدة ..
       وعاد إلى طبعه فصمت .. واستغرق فى تأملاته .. وكانت زجاجة الجعة قد فرغت ، فنهض وجاء بزجاجة أخرى .. وملأ كأسى وقال ، وهو يرفع كأسه إلى شفتيه :
       - فى صحة سوسو ..!
       فقلت وأنا أضحك :
       - فى صحة سوسو ..!
       ثم سألته :
       - ومن هو سوسو هذا ..؟
       - ألا تعرف سوسو ..؟
       - أبدا ..
       - سوسو هو صديق نعمات هانم .. وأنت لا تعرف نعمات هانم بالطبع .. فى نهاية هذا الشارع ، تجد منزلاً أنيقًا من طبقات خمس .. وهو يستهويك بحسن منظره ، وجمال موقعه .. وفى الطابق الثالث منه تسكن نعمات هانم .. قرعت هذه السيدة بابى فى ليلة من الليالى ، وكانت متغيرة اللون ، ويبدو عليها الاضطراب الشديد .. حتى تصورت أن نازلة نزلت بالأسرة .. وكانت فى ثوب وردى جميل .. ورأيت وجهها على ضوء المصباح الكابى .. وعينيها السوداوين وهما تبحثان عن وجهى .. ولعلها كانت تود أن تتثبت منى أولا .. إذ بادرتنى بالسؤال فى صوت رقيق :
       - حضرتك .. الدكتور عرفى ..؟
       - أجل يا سيدتى ..
       وكنت لا أزال ممسكا بقبضة الباب .. وكانت لا تزال فى الخارج ، ووقع بصرى على صدرها ، بعد أن سكن اضطرابها بعض الشيء ، وعاودها بعض الهدوء .. ورأيت وجهها مرة أخرى خارج دائرة الضوء .. رأيته يضئ فى الظلام ..
       فأحنيت رأسى ، وقلت :
       - تفضلى يا سيدتى .. أنا فى خدمتك ..
       - إنه سوسو .. يا دكتور .. وقد تركته وحده فى المنزل .. يجود بأنفاسه .. فأرجوك .. عجل ..
       وتناولت الحقيبة على عجل ، وذهبت معها إلى بيتها ..
       فتحت بابها .. ودخلت وراءها فى سكون ، واجتزنا البهو ، ومشينا فى ممر طويل .. ودفعت بابا صغيرا ، وأشارت بيدها .. فدخلت غرفة رحيبة مؤثثة بفاخر الرياش ..
       وأدركت ، بعد السكون الذى طالعنى من جوانب البيت ، أنها تمرض سوسو وحدها .. وتقدمت نحو سرير صغير وغمغمت :
       - سوسو العزيز ..!
       ورفعت غطاء من الصوف السميك .. وتصور سوسو العزيز هذا ..! كان كلبا أبيض .. وكان المرض قد أحاله قذرا ، بشع المنظر ..
       فنظرت إليها فى غيظ ، وقلت لها بصوت جاف ينم عن غضبى :
       - أنا طبيب بشرى يا سيدتى .. وهذا كلب ..
       - انا أعرف انك طبيب .. وهذا يكفى ..!
       - أرجو أن تسمحى لى .. قد أضعت وقتى يا سيدتى .. إن هذا عبث ..
       وكانت معتمدة على حاجز السرير ، تلاحظنى بجانب عينيها ، وأنا أرد الأشياء إلى الحقيبة ..
       وتناولت الحقيبة بيدى اليمنى وواجهتها .. فرأيت لونها قد تغير ، وعاودها ذلك الأضطراب الذى بدا على ملامح وجهها .. عندما كانت فى بيتى .. وتحرك انسان العين ، وارتسم الأسى على الشفة ، وجال فى عينيها الدمع ..
       وقالت فى صوت رقيق :
       - أنا لا أفرق بين هذا الكلب .. وبين أى إنسان يا دكتور .. وأنت تعرف إحساس المرأة ، ورقة عواطفها ..
       - وجهى عاطفة الخير فيك يا سيدتى إلى ما هو أسمى من هذا ، إلى الأطفال الفقراء من بنى جنسك ..
       ومضيت إلى الباب .. ومشت ورائى .. وقبل أن ابلغ البهو الخارجى ، سمعتها تقول فى صوت باك :
       - دكتور عرفى .. أنتظر .. ارجوك .. 
       فتلفت .. وأمسكت بيدى ، ونظرت إلىّ نظرة آسرة :
       - أنت طبيب وهذا كلب يتعذب .. افعل شيئا أرجوك ..
       - لا حيلة لى يا سيدتى ..
       - افعل أى شيء لتسكين آلامه .. إنه لا يستطيع أن يتكلم .. أو يبث لواعجه كما يفعل الإنسان .. أعطه مسكنا ..! إنه خير عندى من أى إنسان .. إنه يؤنسنى فى وحدتى .. ويملأ البيت كله حركة .. ينبح ويقفز على الكراسى ، ويلعب فى كل مكان .. ويسهر معى فى الليل .. إنك تعرف العذاب الذى تعانيه المرأة ، وهى جالسة وحدها فى انتظار الرجل .. ويمر نصف الليل ، والساعات الأولى من الصباح ، وهو لا يعود .. وهى ساهرة فى قلق وعذاب .. فإذا عاد أخيرا ، كان ثملا .. أو محطما على مائدة القمار .. أنت تعرف هذا .. افعل شيئا لأجلى ، ولأجل هذا المسكين ..
       إنها مسكينة ، وقد رماها الله بشر ما تصاب به المرأة ، وهو الزوج المقامر .. ولقد حطم الأرق أعصابها ، ومن يدرى ، ربما ذهب هذا الخيال ، وانطفأ ذلك السراج إلى الأبد ..
       ورجعت ، وبذلت ما فى وسعى حتى سكن اضطرابها ، وعادت الابتسامة إلى شفتيها .. وأصبح سوسو من أعزائى ..!
***
       وحدث أن مراقبين من مراقبى المنائر تشاجرا فى منارة فى البحر الأحمر ، وكنت معه فى السويس ، وكان هو طبيب الباخرة التى ستذهب إلى هذين الجريحين .. وتأتى بهما حيين أو ميتين .. وألح علىّ فى أن أرافقه فى هذه الرحلة ، فاعتذرت ، فقد كان الوقت شتاء ، والبحر مركبه صعب ، بيد أنه عاد يلح ويقول :
       - سترى أبدع منظر .. البحر والليل .. وكلاب البحر .. ثم الأسماك الصغيرة التى تأكلها الحيتان الكبيرة ، ولا أحد يسمع صراخها وعويلها .. كل شيء ذاهب فى جوف المحيط ، ثم عروس البحر التى اقتتل عليها هذان الأحمقان ..!
***
       وأقلعت السفينة ، وكان البحر هائجا ، والموج يعلو كالجبال ، والعواصف نكباء ، والسفينة تتلاعب بها الأمواج ، وتعوى فى بروجها الأعاصير ، ومع هذا ، فقد ظللنا طول الطريق نضحك ونمزح ، لأنه كان معنا ، وكان إذا اشتد الموج ، ومالت السفينة اتكأ على الحاجز الحديدى ، وصاح بأعلى صوته :
       - جيوفانى ..
فسألته :
       - من هو جيوفانى هذا ..؟
       - ألا تعرف جيوفانى .. إنه كازانوفا ..!
       فتركته يهذى ..!
***
       وأخذت أفكر فى هؤلاء الناس الذين يعيشون فى هذه المنائر منقطعين عن العمران .. إنهم بواسل ولاشك ، وحياتهم فريدة حافلة بالعجائب وجمح بى الخيال ، وتصورت هذين الجريحين ، وقد مات أحدهما قبل أن يصل الطبيب ، وبقى الآخر بجواره يتعذب ، ويتلوى من الألم ، ومن الرائحة الكريهة التى تنبعث من جثة رفيقه .. وسرت فى جسمى رعدة وحدثت الدكتور عرفى بما يدور فى رأسى ..
       فنظر إلىّ ضاحكا وقال :
       - إنك لأحمق يا رشاد .. وأعصابك تالفة .. وتشحن رأسك بالأوهام .. وهب أن هذا حدث .. فماذا فى هذا ..! سترى كيف يعمل فيهما مشرطى ..! إن المسألة عادة .. وأنت ترتعش عندما ترى وجه ميت ، بينما ينبش اللحادون القبور ، ويسرقون أكفان الموتى ! .. " .
       وتركنى وصعد إلى برج السفينة ..
***
       وكان لابد أن تنتهى حياة ذلك الصديق الفذ بفاجعة .. وقد كان .. وما رقد فى حياته سوى رقدة واحدة كما كان يقدر ..
ـــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
ــــــــــــــــــــــــ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق