الأربعاء، 22 أبريل 2015

قلب عذراء



قلب عذراء

-      لمن هذه الرسالة ..؟
-      لأبى ..
-      ما أجمل خطك .. ما الذى كتبته ..؟
-      حدثته عنك ..
-      عنى أنا ..!  ما الذى قلته ..؟
-      إنك طيبة للغاية ..
-      هذا حسن .. ثم ماذا ..؟ 
-      وأنى عوفيت ولله الحمد ..
-      وستبرح المستشفى بعد أيام .. هذا هو المهم .. وسأبقى وحدى ..! 
ونظرت إلى المريض نظرة طويلة ، ووجهها فائض بالبشر ، ثم ارتدت عن السرير ، بعد أن دفعت خصلة من الشعر عن جبينها .. وحركت قدح الشاى من مكانه .. ومشت إلى النافذة فهصرت سترها ، وأطلت على الحديقة المورقة ، وقد غمرها نور الشمس ، ونفذ خيط أبيض من النور إلى الغرفة .. ورأى المريض شعاع الشمس فى الصباح المقرور ، فتألق وجهه ، وقال وعيناه إلى النافذة :
-      لماذا لا تخرجين معى ..؟
فتحولت الممرضة على صوته ، وكأنما أيقظها من حلم مستغرق .. وتراجعت عن النافذة وواجهته ، وقالت فى صوت طروب :
       - أخرج معك ..؟ وتأخذنى ..!
       فقال وهو يدفع عنه الغطاء :
-      بالطبع .. ولم لا ..!
فابتسمت ، وصمتت لحظة ، وفى عينيها إشراق وسحر ، وعلى شفتيها نشوة الحالم ..
وقالت بصوت حلو ، وقد رأته يضغط على الجرس :
-      ما الذى تريده ..؟
-      طابع بريد لهذه الرسالة ..
-      هاتها وسأتولى إرسالها ..
-      كيف أشكرك ..؟
-      هكذا .. أعطنى يدك ..
-      هالوا ..!
-      هالوا ..!
وضحكت حتى رقص قلبها من الضحك ، فقد أخذ المريض يقلد " السستر " وهى تتحدث مع أخيه ، كان قلدها ببراعة فى صوتها ولهجتها ، حتى تمايلت الممرضة من الضحك ، ثم غالبت نفسها وتماسكت ، فقد سمعت صوت أقدام تقترب ، وقرب وقع الخطوات ولاح صاحبها على باب الغرفة ..
ونقر نقرا خفيفا على المصراع الأيسر ، ثم اجتاز الباب ، وقد تمهل فى سيره ، وخفف من وقع نعليه .. وحيا الممرضة وهو باش الوجه ، طلق المحيا ..
وقال وهو يتقدم نحو سرير أخيه :
-      كيف أصبحت ..؟ 
فقالت الممرضة فى صوت ناعم ، وقد تقدمت خطوة ، واقتربت من النافذة ، حتى سقط شعاع الشمس على شعرها :
- أنظر إلى وجهه ، وحمرة الدم فى وجنتيه .. إنه اليوم على أحسن حال ..
-      كل ذلك بفضلك ..
-      لا تقل هذا .. كله من فضل الله ..
وخلعت باقة من الزهور من زهريتها .. ثم دفعت عربة صغيرة عليها آنية الشاى .. وقالت ، وهى تتجه بها نحو الباب والابتسامة تتألق على ثغرها :
-      سأعود .. حالا ..
وشيعها المريض ببصره حتى توارت ..
***
وقرأ حسن لأخيه رسالتين من الريف .. ونشر أمامه بعض الصحف المصورة .. وطفق يحادثه إلى أن جاء طبيب الصباح ، وسر لما رآه على وجه المريض من دلائل العافية .. أمسك بيده هنيهة ، ثم خط شيئا على اللوحة المعلقة على واجهة السرير .. ثم حيا وانصرف ..
       وجلس حسن على كرسى طويل أمام الشرفة ، وأرسل بصره إلى الحديقة المزهرة التى تحف بالمستشفى ، وقد أخذ نسيم الصباح يرنح أشجارها ، ويداعب أزهارها ، ويمايل أعطاف بانها .. وذابت برودة الليل فى حرارة الشمس الفائضة .. وتفتحت براعم الأزهار .. وبدت طلائع المرضى فى الحديقة ، وهم يسيرون الهوينا فى مماشيها .. وانتشروا فى أرجائها .. وجلسوا على الكراسى الخشبية البيضاء فى ممرات الحديقة يستدفئون بحرارة الشمس ، ويتحادثون فى هدوء .. وعلى وجوههم آثار المرض ، والحنين إلى العافية .. والشوق إلى الحرية ، والانطلاق من هذا الأسر .. الانطلاق من هذا الجو الراكد القابض ، إلى حيث الحياة بضجيجها وصخبها ..
       وكان الذين قد مضوا شهورا فى هذا المستشفى ، قد استنزفت حيويتهم ، وخمدت حركتهم ، وخف نشاطهم .. فاستراحوا على الخشب الممدود فى الشمس يصطلون ، ويجرون الحرارة فى أبدانهم ، مستسلمين راضخين .. وكانوا ، وهم ينظرون إلى ما وراء الحديقة ، ويتخطون ببصرهم السياج الحديدى ، يشعرون بالأسى والحنين الفارط إلى ما كان .. يتوقون إلى حياتهم الماضية الحافلة بالنشاط والعمل .. حتى الذين كانوا يلاقون إعناتا من الدهر ، وآلاما من الأيام ، كانوا يودون من أعماق قلوبهم لو يفتح لهم السور الخارجى على مصراعيه ، لينطلقوا إلى الحياة من جديد .. كان هذا السور الحديدى المحيط بهم حدا فاصلا بين الحياة والموت .. سدا قائما لابد أن يتخطوه ، ويجتازوه إلى بحر الحياة الزاخر ..
       كان وجودهم بالمستشفى يذكرهم بالموت ، ويبعث فيهم الرعب ، ويجعلهم يخضعون للأوهام .. كانوا يرون العربة الحمراء المقفلة تجئ كل يوم ، وتبقى فى فناء المستشفى ساعة من الزمان .. ثم تخرج مع الشمس الغاربة سائرة على مهل ، فلا تسمع لمحركاتها دويا ، ولا لعجلاتها صوتا .. كانت تجتاز ممر الحديقة الطويل ، إلى الباب الخارجى فى أكثر من ثلاث دقائق كأنها طفل يحبو .. فاذا انخرطت فى الطريق غذت السير ، وانطلقت كالسهم حتى تتوارى عن الأنظار .. كانوا يشيعونها ، وعيونهم مغرورقة بالدمع ، ووجوهم كاسفة حزينة .. وقلوبهم تتقطع على من فيها حسرات .. كانوا يعرفون أنها لا تخرج فى هذه الساعة من النهار فارغة أبدا .. كانت تحمل فى جوفها بعض نفوسهم .. بعض من قضى معهم أياما طوالا ، متألما شقيا ، ثم تداركه الله برحمته فذهب مع الذاهبين فى غير رجعة ..
       عادت الممرضة ، بعد مدة طويلة ، فألفت حسنا مضطجعا على كرسى فى الشرفة ، وعينه إلى السماء الصافية ، وقد غفل عما حوله ، فانسابت فى لين حتى وقفت أمامه .. فرفع وجهه إلى وجهها المشرق ، وقال وهو يبتسم بسمة الرضى :
-      كيف أصبحت ..؟
-      كما ترى ..
-      على خير حال ..
-      أرجو ذلك .. أعائد فتحى إلى المدرسة ..؟
-      لا أظن ذلك .. سيذهب إلى الريف ..
-      هذا أحسن .. فهو فى حاجة إلى الراحة ..
-      لماذا لا تذهبين معه ، وتمضين أياما فى القرية ..؟
-      أنا ..! لا أستطيع ..
-      لماذا ..؟
-      العمل .. والمرضى .. والعقاقير ..
-      استريحى من هذا قليلا ..
-      ليتنى أستطيع ..
وصمتت لحظة ، ثم أضافت بصوت حزين :
ليس للتنزه أو التنقل قيمة فى نظرى .. ما دمت أعيش هكذا .. مرضى وعقاقير .. رائحة الكلوروفورم .. الأربطة .. الضمادات .. آلات الجراحة .. معاطف الأطباء الجلدية .. قفازات الوقاية .. المشارط .. المباضع .. أوه .. ثم وجوه الممرضات أخيرا ..!
- ومن أجبرك على هذا كله ..؟  لقد تطوعت بمحض رغبتك لهذا العمل الإنسانى .. فلماذا الأسف .. ولماذا هذا الحزن ..؟
فنظرت إليه نظرة طويلة ، واكتسى خداها بلون الأرجوان ، وقالت بصوت ناعم :
-      اخفض صوتك .. فقد نام أخوك ..
فحول رأسه إلى سرير أخيه برهة ، ثم سألها :
-      لماذا جئت إلى هنا ..؟
- وأين كنت أذهب ..؟ لا أب ولا أم .. ولا أخ ولا صديق .. أين تذهب فتاة فى مثل سنى .. لقد جاء إلىّ الرجال بعد أن ذهب أبى .. كانوا يريدون ثروتى .. لم أكن فى سن الغريرة .. كنت أعرف هؤلاء جيدًا .. فرفضتهم فى احتقار .. ومرت السنون .. وانصرفت بكليتى عن الزواج .. ومللت الوحدة .. أأذهب إلى المحافل والمراقص .. وأدور مع كل رجل .. وأنطلق إلى كل مكان .. وما لأحد سلطان على ..؟ .. لم لا ..؟  فمن حقى أن أعيش وأنعم بأطايب الحياة .. وأخرج من هذا الظلام .. كان هناك ظلام سرمدى وشتاء دائم .. كنت أقضـى النهار فى القـراءة ، وزيارة بعض صاحباتى .. ولكن الليل .. الليل الطويل فى الشتاء ..
وفى صباح يوم جميل ، زارتنى صديقة من رفيقاتى فى المدرسة ، وكانت فى لباس أبيض ، وغطاء رأس أبيض ، وحذاء أبيض فبدت أمامى كالملاك .. وضممتها إلى صدرى ، فى نشوة وسرور ، وعلمت أنها تطوعت فى أحد المستشفيات .. وأوحت إلىّ صديقتى بالفكرة ، واختارت لى خير طريق تسلكه فتاة فى مثل سنى .. وفى مثل حالتى .. وبعد أيام كنت هنا .. وكنت أشعر ، فى أول الأمر ، بلذة عظيمة كلما أدركت أنى أنقذ نفسا بشرية من العذاب ، وكانوا دائما يرسلوننى إلى غرفة الدرجات الأولى الممتازة ، ولكننى أرفض هذا وأقول لهم إنى أود أن أذهب إلى الطبقات الفقيرة أولا .. فالأولون معهم المال ، والمال يفعل فعل السحر فى كل مكان فى الأرض ، أما الآخرون فلا مال معهم ، ولا عائل يعولهم ، ولا زائر يزورهم ، ويواسيهم فى آلامهم .. ورأيت فى هذه الأقسام وجوها لا تنسى .. فقرا لا يدركه العقل ..
وبعد أيام تحطمت أعصابى ، وكنت أحلم بهذه الوجوه البائسة فى الليل .. وأخيرا جئت إلى هنا .. وقد تركونى على هواي .. وأخشى أن أمل ، وأنفض يدى من العمل نهائيا .. وأنا الآن اتخير المريض ..! وعندما جاء أخوك نظرت إليه طويلا .. فأدركوا أننى أعطف عليه ، فقد كان صغيرا ، وفى وداعة الحمل ، وكان يتألم .. فتركوه لى .. وسيذهب ويفلت من يدى كغيره .. وأنا أفتح عينى على أحلام جميلة تمضى ..
-      إنك ملاك ..
-      أشكرك ..
ووقفت أمامه ، تنظر إليه فى ابتسام وخجل .. ثم سمعا حركة فى الممر الكبير .. فبارحت الشرفة على عجل ، فقد كان كبير الأطباء يعود المرضى ..
***
       إستأذن حسن من طبيب المساء فآذن له فى أن يبقى فى المستشفى هذه الليلة كما يشاء ، فخرج إلى المدينة وعاد قبيل الغروب ، وكانت إحسان هانم " الممرضة " فى وقت راحتها ، فشعر ، لخلو المكان منها ، ببعض الوحشة .. ولما رآها بعد ذلك تسعى ، فى ثوبها الأبيض الجميل ، فى بعض طرقات المستشفى ، أحس بسرور محض .. وزاده سرورا أنها كانت تبدو ، فى هذا المساء ، فى أبدع زينة وآنق ملبس .. وساوره شعور الرجل الذى تتطيب له المرأة وتتزين ، والذى يدرك أنه شغل تفكيرها ، واحتل شعورها إلى حين ..
       ولما جاءت تتهادى ، ووقفت بجوار سرير المريض ، كان يطالع ووجهه إلى الشرفة ، فلم يحس بها عند دخولها ، ثم استدار بعد أن شعر بجو عطرى يشيع فى أرجاء الغرفة ، فرآها منحنية على السرير تضم إليه بعض الأغطية .. فبقى ناظرًا إليها فى استغراق وصمت ، حتى اعتدلت ، وحولت وجهها إليه على مهل ، إلى  أن وقع نظرها على نظره ..
       فقالت .. وكأنها تراه لأول مرة :
-      ألا زلت هنا ..؟
-      أجل .. أتحبين أن أذهب ..؟
فصمتت ولم تجب ، وإن كانت عيناها قد أجابتا أحسن جواب ، وأنداه على قلبه .. وبقيت لحظة أمامه موردة الوجنتين منفرجة الشفتين ، ذابلة العينين .. ظاهرة الحياء .. ثم انسابت فى خفة ورشاقة إلى الشرفة ، لتخفى ما بدا على وجهها من خفر ..
وكان الليل قد بسط رواقه ، وبدت الأنوار تسطع فى نوافذ المستشفى ، وترسل الأضواء الوهاجة إلى الخارج .. وكانت الحديقة الرحيبة التى تطوق المستشفى ، والأشجار الضخمة التى فى الجانب الشرقى من الحديقة ، تبدو فى وحشة الليل ضخمة مستعجمة ، وزادها رهبة ووحشة ، أن رياح الليل كانت ترنح فروعها أكثر مما تهز جذوعها .. فبدت كعمالقة الليل ، وهى تتصارع فى صمت وهول ..
ووقفت إحسان هانم لحظات تتأمل فى سكون الليل ، غافلة عن المستشفى ومن فيه ، وكأنما عداها الظلام بوحشته ورهبته .. فسرت فى جسمها رعدة ، وتقبضت نفسها ، وواجهت حسنًا بعينين غائمتين ..
فسألها ، وقد عجب لتطور حالها :
-      ألا تجلسين ..؟
فأجابت فى هدوء ، وقد عاود وجهها النور ، وانمحى ما ارتسم عليه من ظلال حالكة تدريجيًا :
-      ليس الآن .. سأجئ بعد دقائق .. أتبقى هنا طويلاً ..؟
-      إلى أن تطردينى ..
فابتسمت ولم تقل شيئا .. ومشت نحو سرير المريض ، وكان يطالع المجلات المصورة .. فلما أحس بها رفع عينيه عن المجلة ، ونظر اليها مبتسمًا وقال :
-      أتحبين هذه ..؟
-      عندما كنت فى مثل سنك .. كنت أقرأ هذه ..
-      والآن .. أنت تقرأين الكتب الضخمة كحسن ..؟
-      أجل .. وعندما تكبر ستقرأ الكتب الضخمة مثلنا ..
-      أتظنين هذا ..؟
-      طبعا ..
-      سأكون مهندسا .. ولن أضيع وقتى فى قراءة الكتب ..!
واستغرقت فى الضحك .. وحولت وجهها نحو حسن ، فرأته يبتسم ..
ومالت على المريض ، وسألته بصوت خافض :
-      ألا تود شيئا ..؟
-      لا شيء غير عافيتك ..
-      وغير هذا ..؟
-      لا شيء ..
-      ألا تود قبلة ..؟
-      قبلة ..؟
-      أجل .. قبلة ..
-      ومن يعطينى هذه القبلة .. السستر ..؟
-      واحدة تحبك أكثر من السستر ..
-      من هى ..؟
-      ألا تعرفها ..؟
وبدا وجهه أحمر كالورد ، ودفن رأسه فى الوسادة فمالت عليه ، وقربت وجهها من وجهه ، وهو يدفعها عنه بيديه .. ثم وضعت شفتيها على شفتيه ، وولت هاربة ..
***
       خرج حسن إلى حديقة المستشفى ، وأخذ يمشى فى أرجائها فى سكون ، وبصره إلى ما فيها من رواء وحسن ، وكان كل ما حوله يبعث على السكون والصمت .. ورجع يذكر ، وهو يجتلى مجالى الطبيعة المحيطة ، أيام صباه فى الريف ، أيام كان يجرى فى المزارع ويتخطى الجداول ، ويسبح فى النهر ، وينطلق بالجواد على الجسر .. ثم ارتد عن القرية ، واستقر فى المدينة ، وأصبح واحدا من أهلها ، وغدا لا يرى منظرا ممتعا ، وإن رآه لم يلتفت إليه ..
ــــــــــــــــــــــــ
       وكان كسائر الذين ينتقلون فجأة من هدوء الريف ، إلى صخب المدينة ، فيحسون أول الأمر بالضيق الشديد ، وبمثل طرق الحديد على أعصابهم .. ثم يرضخون لحكم الواقع ، ويألفون هذا الضجيج ويستطيبون عيش المدينة على الأيام .. على أن حنينهم إلى الريف لا ينقطع جملة .. بل تراه يعود ويشتد فى أشد ساعات النفس كربا ، وأعظمها ضجراً ..
وكذلك كان حسن وهو يتمشى وحيدًا فى الحديقة ، فقد أحس بالاكتئاب الشديد ، واستيقظ فيه ما كان منسيا .. فقد انتقل من الريف إلى المدينة ، ومضى فى زحمتها ، ودار مع العجلة الكبيرة فيها واستغرق بكليته فى عمله ، ونسى أن هناك وقتا للراحة ، ووقتا للتنفس .. وألفت عينه الدخان ، وأذنه ضجيج المركبات والعجلات ، ولم يعد يستريح إلا حيث زحمة الناس ، فكان لا يسكن إلا فى الأحياء المكتظة بالسكان ، ولا ينام إلا على صوت العجلات ، ولا يستيقظ إلا ساعة السكون المطلق .. ونسى الريف أو خيل إليه أنه نسيه .. إلى أن مرض أخوه ونقل إلى المستشفى فى تلك الضاحية .. فكان يذهب إليه فى الصباح المبكر ماشيا .. ويرى الأشجار والأطيار ، ويخيل إليه أنه يراها لأول مرة .. فإذا تأخر فى الليل عاد وقد طلع القمر ، فكان ينظر إليه ، وكأنه ما رآه من قبل أبدا فى سماء المدينة ، وتيقظت مشاعره وأزيحت الغشاوة عن بصره .. وأخذ يفكر فى الجمال والسكون ، وروعة الطبيعة وحسنها .. فليست الحياة فى ذلك الضجيج ، وليس على المرء أن يتعلق بهذه العجلة الدوارة إلى أن تسحقه بين تروسها .. شعر بالأسى على ما فات ، لقد كانت حياته عملا دائما .. لا راحة بعده .. إلى أن جاء إلى هذا المستشفى ، ورأى الطبيعة السافرة ، والسكون والجمال ، والروض ، ووجه إحسان ..
كانت الصور تمضى فى ذهنه واضحة ، ونشط لها جسمه ، وانتشى حسه .. واعتمد على السور ، وغاب ببصره فى الظلام  المخيم ، واستغرق عما حوله .. حتى استيقظ على صوت إحدى الممرضات ، وهى تهتف به فسألها :
-      ماذا ..؟
-      أخوك يسأل عنك ..
فمضى إلى الغرفة ، وقال لأخيه :
-      نعم يا فتحى ..
-      ألا تود أن تأكل معى ..؟
فابتسم وقال :
- أشكرك ، سأتعشى فى الخارج .. وليس من عادتى العشاء فى هذه الساعة كما تعرف .. 
فانحنى المريض على الطعام .. وجاءت بعد فترة قصيرة "السستر" ومدت يدها إلى حسن ، وتقدمت نحو سرير المريض وسألت :
-      الطعام جيد ..؟
فصمت المريض ، وظهر على وجهه الخجل ..
فقال لها حسن ، وقد حلا له أن يزيد فى ارتباك أخيه :
-      إسأليه .. هل هو كفاية ..؟
فقالت وهى تضحك :
-      صحيح ..؟ .. ما كنت أعرف أنه أكول ..
ونظر حسن إلى رئيسة الممرضات ، وهى تخفى ابتسامتها ، وكانت على جانب كبير من الثقافة والذكاء ، ومع أنها تخطت الأربعين فلا تزال عليها نضارة الشباب ، وكانت بشرتها نقية ، وعيناها زرقاوين ، وكان حسن يرى فى أعماق عينيها سرا هائلا ليس إلى معرفته من سبيل .. وكان كلما نظر إليها فى سكون وقوة ، حولت وجهها عنه .. وكأنها تقول له :
-      لا تحاول هذا ..
ومشت إلى واجهة السرير ، وقرأت ما سطره الطبيب على لوحة المريض .. وظهر على وجهها السرور ..
وأحنت رأسها لحسن ، وخرجت من الغرفة ..
وبلغت الساعة الثامنة ، وخفت الحركة فى المستشفى وعاد كل شيء ساكنا ، وتطرح حسن على كرسى طويل ، وجلس صامتا ، وقد عداه السكون الذى خيم على كل شيء وشعر بحنين زائد إلى رؤية إحسان هانم وكان يشعر نحوها فى الأيام الأخيرة بعطف شديد وحنان أكيد ، وكان مع سلامة أعصابه وقوة إرادته لا يستطيع أن يمسك قلبه عن الخفقان كلما رآها .. ولكنه لم يكن يتحدث لها عن عواطفه ، وما يحمله لها من الحب .. بل كان يطوى نفسه على ما فيها ، ويمضى كما يمضى الرجل ..
ولما جاءت استقبلها بابتسامة لم ترها على وجهه من قبل ابدا .. وكانت قد ازينت ولبست أحسن ما عندها ، وشعر لذلك بسرور عظيم .. وأخذت تحادث المريض أكثر مما تحادث حسنا ، وقد فاضت نفسها سرورا وحبورا ..
وظلوا يتحادثون حتى مضى جانب من الليل ، وأطفئت الأنوار فى كثير من الغرف ، وهيأت إحسان السرير للمريض ، بعد أن ضمت إليه بعض الأغطية ، وأنزلت الستر على النوافذ ..
وقالت لحسن بعد أن نام أخوه :
-      هل ستنام هنا ..؟ إذا شئت أعددنا لك السرير الأخر ..
-      أشكرك .. سأنام فى بيتى .. إنه الآن بخير ..
- ولكنه يصحو دائما فى الليل .. ويسأل عنك .. وإذا أدرك أنك خرجت .. تحير فى عينه الدمع .. فأنحنى وأقبله وأفعل كل شيء لأسليه ، ولكنه يظل يبكى فى سكون .. لابد أنه قضى طفولته كلها معك حتى أصبح متعلقا بك إلى هذا الحد ..
- إنه معى منذ ترك القرية إلى المدرسة .. من الخامسة إلى الآن .. وهو لا يفكر فى أبيه بقدر ما يفكر فى ..
- إذن لا داعى لخروجك الآن .. وابق بجانبه إلى أن أعود وانسابت إلى الباب فى خفة ولين ..
ولما عادت كان حسن قد اضطجع على الكرسى ونام .. ووقفت خلف كرسيه ساكنة ، وودت لو تمسح بيدها على شعره ، وتمر بأناملها على جبينه ، أحست بضربات قلبها ، وحنين نفسها ، وكادت تفلت منها إرادتها ، وتتغلب عليها عاطفتها .. ودت لو انحنت عليه وطوقته بذراعيها ، ودفنت رأسها فى صدره .. كانت فى حاجة إلى من يحنو عليها ، ويبادلها عواطفها .. كانت أنوثتها ناضجة ، ولكنها لم تكن تجد فى الجو الذى تعيش فيه حرارة الشمس ودفئها .. كانت تعيش فى برودة شديدة أذبلت نفسها ، وصوحت جسمها ، وذهبت بكثير من جمالها وفتنتها .. كان قلبها قد أدركته الشيخوخة وهو لا يزال صبيا .. وكانت روحها حائرة قلقة .. وأخذ سراج حياتها فى الذبول .. كان عليها أن تعيش هذه الحياة الجافة راضخة مستسلمة لحكم الأيام ، حتى يقضى الله أمره ..
لم تكن من أولئك الفتيات اللواتى يفتحن قلوبهن لكل طارق ويلقين أنفسهن فى أحضان كل رجل .. كانت امرأة لها طهارتها ، ونقاء جسمها ونفسها .. كانت تود الرجل الذى يكون لها وحدها ، وتكون له وحده .. كانت تعرف أن الحياة للمرأة لا تكون بغير الرجل .. ولكن أين الرجل الذى يملأ فراغ قلبها .. ظلت تبحث فلم تجد ، كان هناك شبان يريدون اللهو ليس إلا ، وشيوخ فى طريقهم إلى القبر .. ردت هؤلاء جميعا .. وعاشت لنفسها ، وقنعت بوحدتها .. ووجدت فى الحنان على المرضى أخيرا عزاءها الوحيد وسلواها .. وأكسبتها هذه الحياة نوعا من الفلسفة الفطرية فعاشت فى ظل القناعة ، وبعدت بكليتها عن الرجل .. إلى أن جاء حسن والتقت به فى هذا المكان .. وشعرت نحوه بعاطفة غريبة مبهمة ثم تكشفت على الأيام ، وتحركت أنوثتها من أعماقها ، وخفق قلبها لأول مرة فى حياتها .. وكانت عندما تقبل أخاه تتصور أنها تقبله ، ولذلك كانت تحس بالتهاب شفتيها ، واهتزاز عودها ..
وهو الآن معها ولها .. ولماذا لا يكون لها .. لماذا لا يتحقق هذا الحلم ..!
وأسبلت عينيها .. ووضعت يدها على قلبها .. لماذا لا تقبله لماذا لا ترتمى بين ذراعيه ليأخذها فى أحضانه ..!
واستغرقت فى أحلامها ..
وانتفضت على زنين جرس فى الممر الخارجى .. فبارحت الغرفة ..
***
وحدد اليوم الذى سيخرج فيه فتحى من المستشفى ، وأخذت إحسان هانم تخرج ملابسه من الدولاب الصغير فى الغرفة ، وترتبها فى حقيبته ، وكانت تخفى حزنها ، وما يعتلج فى قلبها ، وتتظاهر بالسرور وكثر ضحكها لسبب ولغير ما سبب ، حتى عجب حسن لحالها ..
وفى صباح اليوم المحدد لخروج المريض ، جاء أبوه ومعه بعض ذوى القربى .. وكان رجلا فارعا قوى الجسم ، متقد النظرة ، جم النشاط ، كثير الحركة .. ومع أنه لم يمكث فى المستشفى أكثر من ربع ساعة ، فإنه أشاع الرعب فى أرجائه .. فقد كان يتحدث بصوت رنان من أعلى طبقة ..! ويلقى الأوامر على كل من يقع تحت بصره .. وكل إنسان عنده ولد .. فحسن ولد .. وكل من جاء معه من القرية أولاد ..!
-      روح يا ولد .. تعال يا ولد ..
 بهذا كان يصيح طول الوقت .. وكان يكلف واحدا بعمل ، فيتحرك ثلاثة فى وقت واحد ، فقد كان صوته يفزعهم ، ويجعلهم يضطربون ..!
ووقفت إحسان هانم فى زاوية من الغرفة ترقب هذا الرجل وقد علت وجهها ابتسامة الإعجاب .. وكان حسن قد انكمش أمامه وتضاءل ، ولم يعد له وجود ..! وكذلك الباقون ..
ورأى الشيخ عبد الكريم أن المريض لا يزال فى الفراش ، فزعق فى وجهه :
-      قم يا ولد .. قم يا مضروب خربت بيتى .. مستشفى .. عقاقير .. قم ..
ونهض فتحى على عجل ، وتقدمت نحوه إحسان هانم ، وهى تضحك ، واستوى الشيخ عبد الكريم على قدميه ، وهو يقول :
-      سأمر على مصطفى بك .. وسنتقابل فى المحطة ..
وبارح الغرفة ، وتنفس الجميع الصعداء ..!
وقالت إحسان هانم لحسن ، وهى تعين فتحى على ارتداء ملابسه :
-      إن والدك مرعب ..!
-      إنك ما رأيت شيئا .. آه عليك لو رأيته ، وهو يزأر كالأسد وراء المحاريث ..!
فضحكت حتى دمعت عيناها .. ومشت معهم إلى الباب الخارجى وقبلت فتحى وشدت على يد حسن ، ووقفت ترقب العربة وهى تمضى بهم فى الطريق الطويل بين الأشجار .. وتساتل من عينيها الدمع ولكنها عندما تذكرت وجه الشيخ عبد الكريم الضاحك ، وصوته المرعب ، ابتسمت ومسحت دموعها ..
***
ولم تنقطع رسائل فتحى عن إحسان .. كان يكتب لها فى الأسبوع مرتين ، ويدعوها فى كل رسالة إلى زيارة القرية .. وكانت تجيب على رسائله وتخصص لها جزءا كبيراً من وقتها .. ولم تكن تدرى وهى تملأ الصفحات والصفحات .. أتكتب هذه الرسائل لفتحى أم لحسن ..! وكان هذا يجعلها تخجل من نفسها .. ولكنها كانت تكتب وتكتب ، وتصف له كل ما تشاهده من صور .. وكان فتحى يسألها فى كل رسالة عن السـستر ، ويرجوها أن تقبل شفتيها ..!
وعاد حسن إلى القاهرة وحده ، وترك فتحى فى القرية بين أحضان والديه .. وكان يذكر إحسان وهو فى الريف ، ويقرأ رسائلها بلذة فائقة ، ويتمنى أن يراها فى أول يوم يعود فيه إلى القاهرة ، وكان الشوق يبرح به ، والوجد يرمضه ، ويتمنى لو يطير إليها بجناحين خفاقين .. ولقد مضى معها فى المستشفى شهرًا وبضعة أيام .. فنما الحب فى قلبه على مر الأيام ، وهو لا يكاد يحس به ، فلما أحس به ، وشعر بخفقان قلبه ، تماسك وتجلد ، وحاول أن يخمد جذوة النار التى تشتعل فى قلبه ، إلى حين .. فلما بعد عنها ، عادت النار تشتعل من جديد .. وإذا بما كان يحسبه رمادا ، قد ارتد جذوة تتأجج ..
وفى أول ليلة نزل فيها القاهرة ، مشى فى الطريق ، وهو ينظر إلى وجوه النساء ويتلفت ، فإذا بصر بامرأة فى لباس أبيض .. انتفض وخفق قلبه ..! ونسى أنها لا تلبس ثوب الممرضات فى الطريق .. ولكنه لم يكن قد رأها إلا فى هذا الثوب الجميل ، وفى هذا الثوب أحبها ، وفى هذا الثوب تمنى أن تكون له بجسمها ونفسها ..
وكان يسائل نفسه :
كيف السبيل إلى لقياها ..؟ أيكتب إليها فى المستشفى ..؟ أيزورها فى بيتها ..؟ ربما يعرضها ذلك للأقاويل وهى العذراء الطاهرة الذيل ، فلماذا يلوث اسمها ..؟ إن كل ما يتمناه هو سعادتها ، وقد تكون هذه الزيارة سببا فى شقائها .. ثم هى امرأة .. قد عاشت لنفسها وبنفسها .. فلماذا يقحم نفسه فى جو حياتها ، ويعكر عليها صفو وحدتها ..؟ انه يعرف فى أعماق نفسه لذة الرجل المستفرد .. الرجل الذى يعيش لنفسه وبنفسه ، بعيدا عن المجتمع .. بعيدا عن الخلق عن التماثيل المتحركة ، بعيدا عن هذه الآلات الصماء التى تتحرك بلولب .. بعيدا عن كل هذه الحماقات .. فلماذا لا تكون هى قد شعرت بلذة المرأة المستفردة .. ولا شيء ألذ عندها من وحدتها ، وسكونها إلى نفسها .. لماذا لا تكون هكذا ..؟ ولماذا يكون دخيلا ..؟ 
رد نفسه عن هواها ، وعاد إلى عمله ، وكاد ينسى فى العمل إحسانا ..
***
       وذهب حسن ، فى ليلة من الليالى إلى السينما ، وجلس فى الصف الأخير كعادته .. وكانت السينما خالية تقريبا ، فلم تكن الرواية من الروايات التى تغرى الجمهور بالمشاهدة .. وسر لهذا ، فقد كان يود أن يريح أعصابه من عناء العمل المتواصل طول النهار ، فى جو كهذا ..
       وأطفئت الأنوار ، وبدأ المشهد الأول ، وأرسل حسن ظهره إلى الوراء ، ومد رجليه ، واستراح فى هذه الجلسة ، واستغرق فيما يشاهد من مناظر ، حتى رأى عامل السينما يصوب مصباحه إلى ناحيته فتلفت .. وجاءت سيدة ، وجلست بجواره ، فلم يعرها التفاته .. وكانت قادمة من النور إلى الظلام ، فلم تره عندما جلست فى الصف ، ولما استقر بها المقام ، واستطاعت أن تبصر بعض ما حولها ، حولت وجهها قليلا إلى ناحيته ، فعرفته ، وهتفت :
-      أنت هنا ..!
-      إحسان هانم ..!
وتصافحا مصافحة حارة .. وسألته وهى تتلفت :
-      أأنت وحدك ..؟
-      لا .. معى زوجتى ..
-      إذن سأغير المكان ..
-      إبق كما أنت ، إنها لا تغار .. كغيرها من الزوجات ..!
وضحكا ثم صمتا .. وانتهى المشهد الأول ، وأضيئت الأنوار .. فقربت وجهها الباسم منه وسألته :
-      كيف حال فتحى ..؟ 
- لقد عوفى .. وهو الآن يلعب فى الحقول .. ويسبح فى النيل ويجرى بحماره الصغير طول النهار على الجسر ..
- ونسى السستر ..؟
- وإحسان هانم أيضا ..
- هكذا الرجال دائما ..!
وحول رأسه إلى ناحيتها ، ورأى على ثغرها ابتسامة عذبة ، وفى عينيها ذلك البريق الذى يخطف فى عيون العذارى ، كلما شعرن بالسرور الباطن ..
فقال ، وهو يديم النظر إلى عينيها :
-      أى مصادقة أن نلتقى هكذا ..؟
-      إنه أعجب شيء .. هل تجئ إلى السينما كثيرًا ..؟
-      أبدا ..
-      وكذلك أنا ..
-      كان ولابد أن نتلاقى ، فتلاقينا على هذا النحو السهل .. ولقد بدأ الحظ يبسم لى ..
-      وهل كنت سئ الحظ ..؟
- إلى أقصى حد .. أنا أعمل طول النهار ، وجزءا كبيرًا من الليل كما تعرفين .. ولا أتريض إلا قليلا .. ولا أذهب إلى السينما غير مرة واحدة فى الأسبوع .. وفى هذه المرة أتمنى ، وأنا آخذ التذكرة من العاملة ، أن يكون كرسى بجوار سيدة جميلة ، فأنسى فى جوها العطرى ما لاقيته من نصب طول النهار .. ولكن الحظ كان يخوننى دائما ، والنحس يلازمنى أبدا ، فلا أجلس إلا بجوار أبغض الناس إلى قلبى .. كهل يدخن ويسعل .. أو شمطاء تظل تثرثر طول العرض .. أما الليلة فقد نسيت كل ما كان .. والحظ الذى لازمنى فيها سيمحو كل سيئات الماضى .. وسأقبل يد العاملة التى أعطتنى هذا الكرسى ..
وضحكت .. ورنت إليه وقالت :
-      أنت سعيد إلى هذا الحد ..؟ 
-      وأكثر من ذلك ، وإن حواسى كلها ..
ـ كفى .. دعنا نرى الرواية .. هل أنت من هؤلاء الذين لا يطيب الحديث لهم إلا فى السينما ..؟
-      أجل .. وأنا أجئ إلى السينما لأتحدث ، أو أنام ..!
-      أرجوك .. كفى ..! 
ووضعت يدها على فمه ..
***
وانتهت الرواية ، وخرجا من السينما إلى الطريق ومرا على بعض المطاعم ، فقال لها:
-      ستتعشين معى ..
-      أشكرك ، لم أعتد الأكل فى الطريق ..
-      سنجلس فى الحديقة ، وهى خالية ، وسنستمع للموسيقى ..
-      لقد تأخرت ، وأنا أستيقظ مبكرة كما تعرف ..
-      أرجوك أن تبقى معى قليلا .. أرجوك .. وقد لا نتقابل مرة أخرى ..
ورأت الرجاء والتوسل فى عينيه ، فدخلت معه المطعم ..
***
وأكلت قليلا ، وتحدثت كثيرا ، وشعرت لأول مرة فى حياتها بلذة الحديث على المائدة .. وكانت الموسيقى هادئة شجية ، وحلقت بها الأنغام فى السماوات .. وكان يقبل عليها بوجهه وحسه ، ويستمع إليها أكثر مما يستمع إلى الموسيقى ، كان حديثها فى أذنه أعذب وأطرب ، وزادها ذلك سرورًا ، ونسيت نفسها ، وأغفلت الزمن ..
ولما نهضا عن المائدة ، كان الليل قد انتصف .. ورافقها إلى بيتها ، وودعها عند الباب الخارجى ، وضغط على يدها ..
وصعدت إحسان هانم إلى الطابق الثانى من البيت ، ودخلت غرفتها ، ولم تخلع ملابسها كعادتها .. بل وقفت طويلا أمام المرآة تتأمل محاسنها ، وتفكر ، وتحلم ..
وارتمت على الفراش وهى تبكى .. ولم تكن تدرى لذلك سببا ..
***
       وفى مساء اليوم التالى تقابلا ، وذهبا إلى السينما ، وإلى نفس المطعم ..!  وفى يوم راحتها انطلقا إلى القناطر ، ومضيا النهار معا ، ولما رجعا قضيا جانبا كبيرًا من الليل يستمعان إلى الموسيقى .. وعاشا معا ، وشعرا بنشوة الحب ، ولذة اللقاء بعد الفراق ..
***
       وقال لها ذات ليلة :
-      يجب أن نضع حدا لهذا ..
فجفلت ، ولم تفهم ما يقصده ، ونظرت إليه مرتاعة ..
فنظر إليها طويلاً ، وقال وهو يضحك :
-      لماذا ترتاعين هكذا ..؟ يجب أن تسرى ..
-      أسر من ماذا ..؟
-      لماذا لا نتزوج  ..؟
فضحكت حتى اهتز بها كرسيها ..
فسألها فى غيظ :
-      لماذا تضحكين ..!
فاقتربت منه ، ومسحت بيدها على شعره ، وقالت فى صوت رقيق :
-      إنك طفل يا عزيزى ..!
-      ولا أصلح للزواج ..؟
-      أجل ..
وابتسمت ، وازداد حنقا .. ورأت لونه يتغير ، فخافت أن يتطور حاله ، فأمسكت بيده وقالت :
- يا صغيرى العزيز .. أنت شاب فى مقتبل أيامه .. وأمامك المستقبل البسام .. ولكننى انتهيت .. حتى وإن كنت فى ربيع العمر .. لا تبتئس من كلامى هذا .. أنا امرأة قد خرجت إلى الطريق .. وأنت ريفى ومن أسرة لها تقاليدها .. وصورة والدك لا تزال فى ذهنى .. فهل تحسبه يرضى بهذا الزواج ..؟ وهل سترضى به أنت ، عندما تفيق إلى نفسك ..؟ أنت الآن فى نشوة الحب ، وستصحو يوما ما ، وستندم .. وستشقى بهذا الزواج .. أنا امرأة خرجت من البيت إلى المجتمع .. وفى كل يوم أقابل أطباء .. ومرضى وزوارا من كل جنس ولون .. ومهما تكن طهارتى ، ومهما تكن ثقافتك ، فإنك ستتعذب وتشقى ، من شيء .. ومن لا شيء ..
سنخرج معا إلى الطريق ، وسأقابل أناسا عرفتهم بحكم عملى .. فماذا أقول لك ، وماذا تقول لى ..؟
لا تفكر فى هذا .. ودعنا نعيش كما نحن ، وستعرف يوما ما أن هناك صداقة يمكن أن توجد بين المرأة والرجل ..
فلثم يدها وهو يغمعم :
-      أنت ملاك ..
-      وأنا أحبك أكثر من نفسى ..
وانحنى ليقبل يدها .. فأعطته شفتيها ..
======================== 
نشرت القصة سنة 1944 فى كتاب " الذئاب الجائعة "
========================



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق