الأربعاء، 22 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان


الذئاب الجائعة



الذئاب الجائعة


خرجنا فى الهزيع الأخير من الليل نزحف نحو المزرعة كالذئاب الجائعة ، ومع أننا كنا مسلحين بأحسن طراز من البنادق ، فقد كنا نتجنب الحراس ونراوغ كالثعالب ، لأننا نعرف قيمة الدم المهدور فى الصعيد ، ولهذا كنا نتخير الأوقات التى تقفل فيها العيون وتغفو .
كان الظلام على أشده فى تلك الليلة ، وكانت وجهتنا مزرعة عثمان بك ، وهو من الأثرياء الأشحاء .. كان جبارا شديد البطش مرهوب الجانب ، وكانت مزرعته متطرفة عن سائر المزارع ، وعليها أشد الحراس ساعدا وأبرعهم رماية .. ولكنا كنا لانخاف أحدا ولا نرهب انسانا ..
كنا من الفتاك الذين يبطشون فى الأرض ، ويعيثون فيها فسادا ، لايردعنا حلم ، ولا يردنا عقل ، ولا يزجرنا زاجر .. كنا نحمل الحقد والضغينة على المجتمع الإنسانى ، الذى طردنا من كنفه ، وشردنا فى الأرض ، وقطع بنا الأسباب ..
وكانت قسوتنا ، وغلظ أكبادنا ، على قدر ما أصابنا فى مستهل حياتنا ، من ضنك العيش وشظفه ، وبلاء الأيام ومحنتها ..
فكانت الفرائص ترتعد لذكرنا ، والقلوب تنخلع لوقع أقدامنا .. وكنا قد ضربنا بكل شىء عرض الأفق ، وعشنا على السرقة والنهب ، نقطع الطريق على الناس ، ونسطو على المزارع فى غلس الليل وفحمته .. وكنا نشعر بعد كل حادثة بلذة المغامرة التى لاحد لها ..
كانت حظائر الماشية فى شرق المزرعة ، وحظائر الغنم ، وهى مبتغانا وقصدنا ، على رأس الطريق المؤدى إلى الحقول ، وكان حول الغنم سياج يبلغ رأس الرجل .. وله بابان أحدهما يؤدى إلى الطريق الصغير الممتد إلى باقى الحظائر ، والآخر يفضى إلى الحقول .
وكنا قد درنا حول المزرعة فى الليالى السابقة ، وعرفنا كل شىء فيها ، ورأينا أن خير ما نفعله لنتقى كلابها ، هو أن نرسل واحدا منا يناوش كلاب مزرعة مجاورة ، فتخرج إليها كلاب المزرعة التى نقصدها .. وفى تلك الساعة نتقدم نحو الحظيرة ، ونخرج بالغنم إلى بطن الوادى ثم نتجه بها فى طريق غير مألوفة إلى الشرق ، وبذلك ننجو بها ..
وتم كل شىء بمنتهى السرعة .. فبعد دقائق قليلة كنا نسوق الغنم .. وتحولنا بها إلى بطن الوادى ، وأخذت عصينا تعمل فوق ظهورها بحمية .. وكنا نسير خلفها وواحد منا فى مقدمتها ، ونحن صامتون ، وصوت الكلاب فى المزرعة المجاورة يقطع علينا هذا السكون العميق ، ثم فتر نباح الكلاب بالتدريج وانقطع صوتها .. وسكن كل شىء ، وخمد كل حس ، وساورنا الاطمئنان المطلق ..
وتنفسنا الصعداء ونحن نجتاز بالغنم الوادى ، وندور بها حول التل ، والسكون يخيم والصمت شديد ، وصوت الأمواج المتكسرة على شاطىء النيل يصل إلى آذاننا عن بعد كأنه زمجرة الوحوش فى الأجم ، ونيران الفلاحين فى المزارع البعيدة تبدو فى غياهب الليل كألسنة الجحيم ..
ودرنا حول الغنم ونحن نحثها على الاسراع ، وقد ساورنا شعور من اقترب من الهدف فاندفع بأقصى قوته ليستريح فى النهاية ..
وسمعنا فجأة صوت رصاصة مرقت فى الجو .. فحبسنا أنفاسنا ، وصوبنا أبصارنا إلى حيث انطلقت الطلقة .. وقد أخذنا أهبتنا للأمر .. وكانت الكلاب قد عادت تنبح ، ثم انقطع نباحها شيئا فشيئا .. فتصورنا الطلقة من أحد الفلاحين الذين يبيتون فى المزارع ، ويطلقون النار على غير هدى ، فى أخريات الليل ليرهبوا اللصوص .. وعاد إلينا الاطمئنان واستأنفنا السير .. وإذا بنا نسمع طلقات متصلة اهتز لها الجو وزأر وهاجت الكلاب وتفزعت كأنها فى شجار مستعر ..
استدرنا وانبطحنا على وجوهنا وتركنا الغنم مع واحد منا يسوقها بأقصى سرعتها .. وأخذ الرصاص يدمدم ويصوب إلى اتجاهنا ..
لقد تقفوا أثرنا وعرفوا طريقنا ولم يكن من القتال بد ..وزحفنا كما تزحف السلاحف إلى مشرف عال بجانب الطريق .. وأخذنا نرد على طلقات الحراس بطلقات أشد منها ..
وانقلب الجو إلى معركة حامية .. واشتدت علينا المطاردة وكثر طلق النار .. وكأنما خرجت إلينا المزارع بجميع حراسها وأحسسنا بدقة موقفنا .. وأدركنا أننا لو بقينا فى مكاننا فنحن هالكون لامحالة ، فتراجعنا إلى مكان آخر .. ورأينا أن نسرح الغنم ليكف عنا الحراس .. وعهد الرفاق إلىّ وإلى زميلى حسان بهذه المهمة .. فأخذنا نغير اتجاه الغنم ونردها على أعقابها .. وبعد دقائق قليلة كنا ندفع الغنم من حيث جاءت والرصاص يصفر فوق رأسينا .. ورميت رفيقى بحصاة .. ونهضنا معا وجرينا بكل ما وسعنا من السرعة .. وسمعت أنة مفزعة وسقط جسم رفيقى على الأرض ، فأسرعت نحوه وحملته .. وبعد لحظات جاء الرفاق .. وحملناه .. وسرنا به مسرعين قبل أن يفضحنا نور الفجر ..
***
انقطع صوت النار وخف نباح الكلاب  ثم سكن  وخيم السكون العميق .. وبلغنا بصاحبنا التل .. وكان قد فارق الروح فى الطريق بعد أن تألم كثيرا .. ووضعناه فى الزورق ، وأعملنا الأيدى فى المجاديف ، واتجهنا نحو الغرب ، وقد خيم علينا الصمت ..
ما أعجب الحياة !
لقد انتهت حياة رفيق لنا فى مثل خطف البرق ، وما ذرف أحد منا دمعة ! فقد قست قلوبنا وتحجرت مآقينا .. وهل هو القتيل الأول ؟ .. أبدا .. ولن يكون الأخير .. وسيأتى دورنا ما من ذلك بد ..
وتبادلنا المجاديف ، والرفيق الذى كان يضاحكنا فى المساء ويمازحنا قد رقد هناك فى ركن من الزورق ، صامتا أخرس ..لقد كان صمته أبلغ من نطقنا .. ولقد أطبق فمه وهو فى بكائر أيامه وربيع عمره ، وضرب الضربة البكر ، وهو فى أول عهده بالحياة .. قضى .. لأنه كان أكثرنا حماسة .. وأشدنا بطشا ، ولقد انتهت تلك القوة الجبارة فى ساعة قصيرة مفجعة ، وكنا جميعا نتوقع الموت فى كل ليلة نخرج فيها للسرقة إلا هو ، فقد كان الموت أبعد شىء عن ذهنه .. ولعل الشباب والجبروت وقوة الحيوية هى التى جعلته هكذا .. ولكن ما أعجب الأقدار ! لقد اختطفته هو ، وخلفتنا نحن .. إلى حين ! .
وانحنيت على جسمه أتأمل روعة الموت فى ذلك الوجه الناضر .. فإذا بوجهه قد احتقن وتصلب واغبر ، وبرزت عيناه فى رعب ، وسقط فكه الأسفل ، فعل من عانى أشد برحاء الألم .. وأغمضت عينيه ، وقد أذهلنا الموقف المروع عن فعل ذلك من قبل .
وأخرجناه من الزورق وحمله اثنان منا ، وسار الباقون خلفهما فى صمت كئيب .. وبدا الجبل رهيبا موحشا ، شامخا جبارا .. وسيضم جبارا مثله .. أخذنا نتبادل حمله ، وقد ثقل جسمه وتصلب .. وعلى الرغم من أننا ربطنا الجرح ، كان الدم لايزال يتفصد ، وكانت أرجلنا تغوص فى الرمال ، وعرقنا يختلط بدم القتيل ، ويسيل على وجوهنا وثيابنا .. يا لله .. أى حياة يحياها الأشقياء فى القرية .
تطلعنا إلى الأفق الشرقى وقد بدى بياض الفجر يزحف .. وكنا قد قربنا من المقبرة ، وثار الغبار الدقيق فى وجوهنا وملأ خياشيمنا ، وأخذ الصمت الرهيب يطالعنا من كل جانب ، وكنا نتبادل من قبل بضع كلمات ، ولكن ما لاح شبح المقابر عن بعد ، وهى رابضة عند سفح الجبل ، حتى تملكنا شعور من الرهبة ، ومزيج من الخوف والابتئاس .. فتصبب العرق على وجوهنا .. وأصبح كل شىء حولنا كريها بغيضا .. فأحسسنا فى أعماقنا بشعور من أشرف على الهاوية ، ووقف على رأس الجب وعيناه إلى تنين هائل ..!
لقد كان عذابنا لاحد له ، وقلقنا لايصور ، وشعورنا بالبغضاء يفوق كل وصف .. كنا نود لو نلقى بصاحبنا فى اليم ، ونجعله طعمة الأسماك ، أو نطرحه فى العراء ، لتنقض عليه صقور الجو ، وجوارح الطير .. وأسفنا على كل ما تحملناه فى سبيله حتى بلغنا به الجبل ، حيث المقابر ..
لقد أثارت هذه المسافة الطويلة التى حملناه فيها كل ما يمكن أن يحمله إنسان لإنسان من حقد وكراهية .. فلو اعترضنا فى تلك الساعة الرهيبة معترض لمزقناه إربا ..
كنا نسير فى طريق المقبرة ذاهلين مشدوهين ، وكأننا نحمل جبلا على أعناقنا .. كان شقاؤنا مرا وعذابنا غليظا .. وكان الحسك والشوك وشجر الصبار ينبت على جانبى الطريق .. وكنا ندوسه بأقدامنا ونحن لانحس به من فرط الذهول ..
لقد مرت علىّ فى تلك الساعة الرهيبة صور حياتى من الوقت الذى شببت فيه عن الطوق إلى أن أصبحت من الفتاك الآثمين .. وضمنى هؤلاء الرفقاء إلى زمرتهم .. وسرنا جميعا فى طريق الظلام .. هل كنا سنصبح هكذا ونعيش على هذا النحو لو أنيرت أمامنا السبل ، ورفعت المشاعل وتبينا السبيل ؟    أبدا .. لقد كنا أشد ما نكون حماسة وفتوة ونضارة ، فانتقلنا من الروض إلى بيداء التيه ، بعد أن ضاقت بنا السبل ، ودفعنا المجتمع إلى ركوب هذا الطريق .. فيجب أن نمضى إلى النهاية ..
إن أحدا من الناس لم يفكر فى الساعة الفاصلة فى تاريخ الإنسان .. الساعة الفاصلة فى تاريخ الرجل ، التى قد يكون بعدها ملاكا رحيما أو شيطانا رجيما .. لقد مرت بنا تلك المحنة القاسية كما لم تمر على مخلوق بشرى ، وكنا نتعذب ونقاسى من البرد والجوع والشقاء ، ونحمل من الأعباء ما تنوء بحمله الجبال .. كنا نعمل ونحن صغار فى الحقول ، فلا نحصل فى آخر النهار حتى على ما يمسك الحوباء ، كنا نرتعش من البرد فى ليالى الشتاء ، ونتألم من الجوع .. ولم يكن عملنا منتظما ، بل كنا نعمل يوما ونتبطل خمسة .. وكان كل شىء يعمل على عذابنا وشقائنا ، فلم يكن بد من هذه الطريق !
ولم نكن نشعر فى أول الأمر ، بعد كل حادثة سطو بشعور الرجل الراضى عن عمله وفعله ، بل كنا فى ساعات كثيرة نشعر بالندم ، وعذاب القلق ، إذا ما اسفرت الليلة عن محنة وبانت عن قتيل .. ثم مضت الأيام وجرفنا التيار إلى نهاية المنحدر ، فغلظت قلوبنا .. وماتت ضمائرنا .. وغدونا أشد ضراوة من الوحوش ..
***
كان النور قد شعشع على الكون ، وبدت المقابر المتناثرة على سفح الجبل .. وحلقت الغربان فى الجو .. وتطلعنا إلى قرن الجبل ، ولمحنا عن بعد ذئابا تنحدر عن قمته ، وخيل إلينا أنها ترقبنا عن بعد .. ما أشبهنا بهذه الذئاب .. إنها تسعى الآن لتأكل إنسانا أو حيوانا ، فإذا لم تجد أكلت نفسها ..
رمقنا هذه الذئاب بعيون تتقد غيظا وحنقا .. وكانت تنظر إلينا بمثل نظرتنا .. وتنحدر عن التل لتأخذ علينا الطريق .
بحثنا عن فأس لنحفر لرفيقنا حفرة .. فلم نجد .. وأخذنا نعمل فى التراب بأيدينا وأطراف بنادقنا ، حتى حفرنا له حفرة ، وواريناه .. ونفضنا عن أيدينا الغبار .. وكانت الذئاب لاتزال تنحدر عن التل ، وتتجه نحونا ، أو تتجه نحو المقبرة الجديدة !
وكانت ترقبنا بعيون جائعة !

==============================
نشرت فى مجموعة قصص " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى عام 1944 وأعيد نشرها فى كتاب قصص من الصعيد من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
===============================


حياة رجل



حياة رجل

كان الدكتور عرفى من أعز أصدقائى ، كان صديقى فى المدرسة ، وزميلى فى معهد شوبير الموسيقى ، ورفيقى فى كل مكان .. وهو الذى أغرانى بتعليم الموسيقى ، وركوب الصعاب فى سبيلها ، ثم هو الذى جعلنى أنفض يدى منها ، وأتخلف عن الركب فى أول الطريق ..
وكان يقول بعد الدرس ، وعلى شفتيه ابتسامته التى لم تكن تفارق ثغره أبدًا :
 "أنا أفهم أننى أستطيع أن أستظهر لامية العرب للشنفرى ، أو بائية النابغة الذبيانى ، أو معلقة الأعشى .. أما أن أستظهر مقطوعات موسيقية برمتها ، وأؤديها عن ظهر قلب كما لو كانت قصيدة من الشعر ، فذلك مالا يطاق .. هارمونى .. سلفيج .. سأظل ثلاثين سنة لا أفرق بين الدودييز والدوناتوريل ..! لماذا كتب علينا هذا المصير ..! "
ومع كل دعاباته ، وما كان يركب به الناس من مجون .. فقد ثابرنا وواصلنا الدرس ، ولم نتقدم لا كثيرا ولا قليلا ..! وكان ينظر إلى مدرس الكمان ، ويقول :
- أتذكر بائع البسطرمة فى شوارع استنبول .. إنه صورة ممتعة لا نظير لها إلا مدرسنا هذا ..! كيف يدرس هذا الموسيقى وروحه أبعد شيء عنها ..؟ وليس فيه طبع الفنان ، وما له سمته .. لماذا كتب علينا هذا المصير ..!
       وحضرنا حفلة غنائية لأول مرة ، وآخر مرة فى حياتنا ..
       وصفق الناس للمغنى ، وكادت الأكف أن تطير فى الجو من فرط الحماسة .. مع أنه لم يقل شيئا سوى أنه تأوه .. وتأوه .. ثم تأوه .. وقال كلاما لا معنى له ، لا هو بالشعر .. ولا هو بالنثر .. وإنما هو أشبه بنواح العجائز .. وتغير وجه صاحبى ، وظل فى مكانه يتميز من الغيظ .. ثم انتفض .. وجذبنى من سترتى وهو يقول :
- هيا بنا .. كيف أقبل على نفسى أن أكون بهلوانا لهؤلاء الحمقى ..؟ فلنرح أنفسنا من هذا العناء .. لقد ألفوا التهريج وغدا من طباعهم .. وكل فنان حقه مضيع فى هذا البلد .. ومما يحز نياط القلب أن هذه القرود تتحكم فى مصير الفنانين .. فلنرح أنفسنا من هذا النصب .. وليس هناك سوى بيتهوفن واحد كما تعرف ، وعالم الموسيقى لن يخسر شيئا إذا حدنا عن الطريق ..
وقد كان ..
***
       وكان يدرس الطب ، وكنت فى قريتى أعمل فى الحقول .. وكان أشق الأشياء على نفسه أن يكتب رسالة لإنسان .. فانقطعت عنى أخباره عدة سنوات .. ثم عدت إلى القاهرة ، وبحثت عنه فى كل مكان فلم أجده .. فتصورته فى عداد الموتى .. إلى أن ذهبت فى عمل إلى السويس ، فرأيته جالسا على حجر فى طريق الزيتية ، وعينه إلى الجبل ، وقد تراكمت عليه السحب ..
       وكان فى سكون طائره ، وهدوء نفسه كأنه تمثال .. ولما وقع نظره علىّ ، رفع وجهه قليلاً ، دون أن يتحرك من مكانه ، وكأننى كنت معه على ميعاد ، وقال وهو يبتسم :
- كنت أعرف أنك ستأتى إلى هذه البلدة ، فقد تلفت أعصابك من القراءة والكتابة ، وضياع العمر فيما لا يجدى ..!
***
       ومشينا إلى مشرب من مشارب الجعة لنتعشى ، وقال لى على العشاء :
       - أطبعت شيئا جديدا يا رشاد ..؟
       - لم أفكر فى ذلك ..
       - حسنا تفعل .. إنه ضياع لعمر الشباب فيما لا خير فيه .. وهناك طرق أخرى للانتحار أسرع من هذه التى اخترتها لنفسك ..!
       - ولكن لابد مما ليس منه بد ..
       - هذا هراء .. ولقد فقدت الإيمان وهو عدة الفنان .. أنسيت بائع البسطرمة فى شوارع استنبول والقرود الهاذرة فى كل مكان ..! إنه عناء ونصب ، ولا جديد تحت الشمس..
       وصمت وعاد إلى الكأس .. وكان أبيض كوسجا رائع المظهر ، حسن السمت ، ساكن الطائر أبدا ، كأنما صبت أعصابه فى قوالب من حديد .. وكانت عيناه أول ما يروعك من حسنه .. كان سوادهما شديدا وبريقهما أخاذا .. إذا نظر نفذ بهما إلى السويداء .. وإذا سدر ببصره خلته يتأمل من فرط السكون الذى يشيع فى معارف وجهه ..
       وكان ينظر إلى المرأة عن عرض ويحتقرها فى أعماق نفسه .. ومع ذلك فقد كانت دائما تلوذ بكنفه ، وترتمى تحت قدميه .. وهى فى نظره أبسط من البساطة إذا ما توجهت إليها من أقصر طريق .. وأخلق بمن يدور حولها ، كما تدور الرحى حول قطبها ، أن يصيبه الدوار قبل أن يبلغ القصد ..
       وكان يشرب الجعة كما يشرب الماء .. يعب فيها عبا ، ولعله ما كان يجد للماء مذاقا فى فمه بعدها ..! وكان يستغنى بها عن العشاء وعلى كثرة ما كان يشرب منها لم يكن يثمل ، أو يفقد توازنه ، أو يغيب عن وعيه .. وكل ما كان يحدث له هو أن تلتمع عيناه ، ويبدو سوادهما على أشده ..
       ونظرت إلى وجهه ، وهو يرفع الكأس إلى شفتيه .. وعدت أذكره عندما كان طالبا صغيرا فى المدرسة ، ناحل الجسم وادعا .. رقيق الحس ، متيقظ المشاعر ، يقف بعيدا عن التلاميذ تحت شجرة الجميز فى فناء المدرسة .. وبيده ديوان من الشعر .. وكان يقرأ ويستظهر .. ويرسل بصره إلى الحقول المجاورة .. فإذا دق الجرس ، كان آخر إنسان يدخل الفصل .. وآخر جالس فى الصف .. وآخر تلميذ فى الترتيب .. وكان إذا ابتدأ المدرس فى الدرس ، ابتدأ هو يسبح فى ملكوته ، وغاب ، واستغرق فى تأملاته ، ولم يكن ينتبه لكلمة واحدة مما يقوله الأستاذ .. فإذا جاءت سيرة الشعر ، أو الموسيقى تنبه من غفلته ، وانتفض كما ينتفض الطير اذا أصابه القطر ..
       ذكرت هذا كله ، وأنا الاحظه بعينى ، وهو يعب فى الجعة ..
       وسألته :
       - لماذا تتحامل على الآداب والفنون هكذا ..؟ وكيف تنسى أيام الصبا .. وكيف تنسى الشعر والموسيقى ..؟ لقد غيرتك الجعة ..
       - إنها ليست الجعة .. أنت تعرف أن حادثًا بسيطًا يقع فى حياة الإنسانية قد يغير وجه التاريخ .. وكذلك الإنسان قد يعرض له حادث تافه فيغير مجرى حياته .. يغير نظرته للأمور ويبدله تبديلاً ، ويخلق منه رجلا آخر ..
       أتذكر السيدة جراسيا الكاتبة الأجنبية التى زارتنا فى المعهد .. أنا مدين لهذه المرأة بكيانى ووجودى .. لقد فتحت عينى على حقائق الوجود .. أتذكر هذه المرأة ..؟ لقد دعوناها للعشاء كما تعرف ، وسافرت هى إلى أسوان ، وسافرت أنت إلى القرية ..
       وفى صباح يوم من أيام الشتاء كنت سائرًا وحدى فى شارع سليمان باشا وسمعت من يهتف باسمى فتلفت .. فوجدتها هى .. وكانت معها سيدة أخرى أصغر منها سنا ، وأنضر وجها ..
       وقالت فى صوت رقيق :
       - أتذكرنى ..؟
       - بالطبع يا سيدتى ..
       وأحنيت رأسى .. وكان الخجل قد جعلنى مضحكا ..! ولاحظت ذلك فابتسمت ، وقدمتنى إلى السيدة التى معها .. فسلمت تسليم البشاشة ..
       وأعطتنى السيدة جراسيا عنوانها ، ودعتنى إلى زيارتها فى مساء اليوم التالى فى الفندق ..
***
       وفى المساء كنت هناك فى غرفتها ..
       وأخذنا نتحدث عن الموسيقى والشعر والريف المصرى ، ثم خرجنا إلى بهو الفندق الكبير ..
       وجلسنا إلى مائدة صغيرة فى ركن قصى من البهو .. ومع هذا .. ومع أن المكان لم يكن مكتظا بالناس فإنى شعرت بالاختناق .. وتصورت أن عيون الجالسين تتجه نحوى ، وأننى غدوت محط أنظارهم جميعًا .. وكان لى عذرى فى هذا ، فقد كان هذا أول عهدى بالمجتمعات ، وأول مرة فى حياتى أجلس فيها مع سيدة فى مكان عام ..
       وجاء الساقى ، وطلبت كأسين من النبيذ ..
       فقلت لها ، وأنا أذوب خجلا :
       - أرجو معذرتى .. إننى لا أشرب ..
       - إنك لست بالصغير جدًا كما تتصور .. وستصبح فنانًا .. ويجب أن تشرب ..
       - أرجو أن تعفينى من هذا ..
       - إن كأسا واحدة لن تقتلك ..! وسترى أنه ألذ شيء .. 
    وشربت كأسا .. وكأسين .. وثلاثة .. وأحسست بالدفء .. وزايلنى الخجل ، ولم أعد أحفل بشيء مما حولى .. ونظرت إلى السيدة من جديد .. ورأيت فى عينيها بريقًا أخاذًا ، وإغراء فاتنا .. وأخذت أجردها ، بعين الخيال ، من ردائها الصوفى السميك ، وأتصورها فى غلالة رقيقة ، وقد استراحت بصدرها على صدرى ، ويدى تمر على شعرها ، وتمسح على خديها ..!
       واتكأت بمرفقها إلى المائدة ، وقالت لى فى صوت موسيقى :
       - أتشعر بتعب ..؟
       - لا .. بل أشعر بسعادة حقة ..
       - لماذا ..؟
       - إنك تعرفين السبب ..!
       - أنا لا أعرف شيئًا .. قل كل ما تشعر به .. ولا تخجل ..
     فأطرقت برأسى وأحسست بأناملها الرقيقة تمر على أناملى .. رفعت وجهى إلى وجهها .. وكانت تضحك ..!
       وسألتنى فى صوت يسيل رقة وعذوبة :
       - كم عمرك ..؟
       - سبعة عشر عاماً .. 
       - هذا ما قدرته .. عندما وقع نظرى عليك لأول مرة .. رأيت فيك صورة أعرفها .. كنت فى سكونك وهدوء نفسك وملامح وجهك ، كشيلى تمامًا .. وقد سألت الأستاذ عنك .. ولم أعجب عندما قال لى أنك تقرض الشعر وتجلس طول الوقت حالمًا .. مستغرقًا فى تأملاتك .. فقد كنت على يقين من أنك هكذا .. ولما دعوتنى مع صاحبك للعشاء فى اليوم التالى .. سررت جدًا .. لأننى كنت أحب أن أراك .. وأكبرت فيك هذه الجرأة ، ولكن يبدو لى أن هذه الجرأة كانت من صاحبك .. فأنت شديد الخجل سريع النسيان .. فقد كدت لا تعرفنى عندما قابلتك أمس فى الشارع ..
       - لم أكن نسيتك .. ولا يمكن أن انساك .. وهناك وجوه لا تنسى .. ولا أحد يستطيع أن ينسى هذا الشعر وهاتين العينين ..
       - صحيح ..؟
       - صحيح ..
       - أكنت تذكرنى ..؟
       - دائمًا ..
       - وتود أن ترانى ..؟
       - أجل ..
       - وهل فكرت فى .. كما فكرت فيك ..؟
       - فكرت كثيرًا .. وتخيلت .. وحلمت ..
       - أما أنا فقد كتبت لك رسالة .. وهى الآن فى غرفتى .. وستقرأها يومًا ما .. وتعرف لماذا كتبتها .. ولماذا أقول لك كل هذا الكلام .. والآن هيا بنا ..
       وبارحنا المكان ..
       وودعتها على سلم الفندق ..
       وقالت لى :
       - ستجئ غدًا ..
       - وبعد غد .. وكل يوم ..
       - وحدك ..؟
       - وحدى ..
       وفى اليوم التالى ذهبت إليها وكانت فى انتظارى بغرفتها .. وكانت فى أبدع زينة وفى ثوب من المخمل الأزرق ، وقد زادها فتنة ، وأكسب وجهها سحراً فوق سحره ..
       وجلست على الأريكة ، وأجلستنى بجوارها .. وأخذنا نتحدث عن بيتهوفن ، وفاجنر ، وموزار .. ونقرأ شعر شيلى .. وكان صوتها رقيقًا ، وحديثها عذبًا ، وكنت مأخوذا  بسحر جديد ، وجو غريب لم آلفه .. وشعرت بروحى تتشرب من رحيقها ، وبنشوة لذيذة تسرى فى كيانى كله ..!
       وسألتنى :
       - أقرأت الخيام ..؟
       - أجل .. اكثر من مرة ..
       - إن عندى نسخة إنجليزية نادرة الطبع .. وهى أعز علىّ من نفسى .. وقد وضعت رسالتك فيها ..
       ونهضت .. وفتحت حقيبتها .. وأخرجت الديوان .. ووضعته على المائدة .. ثم وقفت أمام المرآة لحظات ، ومرت بيدها على جبينها ، وحلت شعرها .. فانسدل طويلاً على ظهرها وكان أسود كالليل ، ومتموجا براقًا كصفحة الغدير .. وكان أبدع شيء فيها ، وكانت تعرف تأثيره وسحره على صبى فى مثل سنى ..
       وعادت وجلست بجوارى ، وفتحت الكتاب .. وقرأنا .. وأمسكت بيدها وتوقفت عن القراءة .. وظللنا ساكنين ..
       ورأيت نفسى أرفع يدى إلى ذراعها .. وأحسست بجسمى ينتفض .. وكنت غرًا وصغيرًا ، وكانت أول امرأة فى طريقى ..
       ونظرت إلىّ ، وقالت وهى تبتسم :
       - لماذا ترتعش ..؟
       فلم أجب ..
       وضحكت ضحكة ناعمة ، وقربت وجهها من وجهى ، حتى كاد شعرها يلمس جبينى ، وقالت فى صوت خافت :
       - كيف تواجه الجماهير بهذه الأعصاب .. وهذا الحياء الشديد .. إن هذا محزن ..؟
       وبعد عذاب وجهد شديدين استطعت أن أضع فمى على فمها ..
       ونزلت من الفندق ، وسرت فى شوارع القاهرة على غير قصد .. وأنا أشعر بقوة عظيمة ، وحيوية لم أعهدها فى نفسى من قبل ، وكانت روحى قد بعثت من رقادها ، وبراعم نفسى قد تفتحت ، وقلبى قد تحرك لأول حب ، وشفتاى قد ارتعشتا تحت شفتى امرأة .. ومضيت فى الطريق . وأنا أردد كلماتها وأسائل نفسى .. لماذا لا أستطيع أن أواجه الجماهير ..؟ ولماذا أفكر كثيرًا ولا اعمل شيئًا .. لماذا أفكر فى التوافه من الأمور دائمًا ، وارتعش عندما يلمس جسمى ذراع امرأة ..! لماذا أعض على النواجذ ، وأندم على ما فات ، ولا أفكر فيما هو آت ..؟ لماذا أتردد بعد كل خطوة .. وأعيش على هامش الحياة ، حالمًا كالشعراء المجانين ..! لماذا كل هذا ..؟  لأن أعصابى ممزقة ، وجسمى ناحل ، و رأسى مشحون بالأوهام ..
       وفى اليوم التالى كنت فى أحد الأندية الرياضية ، أجدف فى النيل ، وأجرى فى الهواء الطلق ، وأسبح فى الماء ، وألعب بالكرة .. وبعد شهور شعرت بجسمى يتغير ، وذهنى يصفو ، ولم أعد أفكر فى التوافه من الأمور ، ونظرت إلى الحياة من جديد .. وزاد احتقارى للإنسان بعد أن دخلت مدرسة الطب ، وأخذ مشرطى يعمل فى جسمه ، ويمزق قلبه ..!
       ونظرت إلى كتب الآداب فى بيتى ، وأسفت على هؤلاء الكتاب المساكين .. دستويفسكى .. غوركى .. أندريف .. هنريخ مان .. دكنز .. الجاحظ .. الأصفهانى .. المعرى .. ابن الرومى .. إنه الحس المرهف .. إنها العبقرية الفذة .. إن هؤلاء هم خلاصة الذكاء البشرى .. ولكنهم تعذبوا كثيراً فى سبيل سعادة المجتمع .. وماذا أفادوا ..؟ .. لاشيء .. تماثيل فى الميادين ..!  هذا هراء ..
       إن خيرًا من هؤلاء جميعًا ديماس الأكبر ، لأنه كان ضخمًا ، وفى جسم الثور .. وكان يأكل فخذ عجل ، ويكتب كل يوم كتابًا ، إنه أدب أجوف ، ولكنه أدب الجماهير ، وأدب الذين يستلقون على الأرائك ، ويسخرون من آلام البشر ..
       ماذا جاء بعد هؤلاء الأبطال .. حضارة القرن العشرين .. موسيقى الجاز .. أندية العرى .. المواخير فى كل مكان .. والتحرر من كل قيد .. والهستريا الجنسية .. الدنيا ماضية فى جنونها يا صاحبى .. والشخصيات الفذة فى تاريخ البشرية لن تتكرر ، والناس يحلمون بعصر ذهبى ، ولكن هيهات .. فقد انقضى عهد الأنبياء ، ومات عمر بن الخطاب منذ قرون وقرون .. ولن يجئ عمر آخر فى تاريخ البشرية ، والناس يسعون لغرض أسمى .. ولكن هيهات .. فالقوى سيظل يسحق الضعيف ، ومن بين كل ألف مجرم يقع مجرم واحد فى يد العدالة ، ويمضى الباقون تحت عين الشمس ..
       الدنيا ماضية فى جنونها .. رغم كل شيء .. وهل أنت أسعد حالاً الآن من إنسان الغاب ..؟  أبدًا .. وماذا تفيد الكيمياء والكهرباء إذا لم تسخر لسعادة الإنسان ..؟ كل ما تسمعه عن العصر الذهبى للإنسان هو باطل الأباطيل ، فالشقاء سيظل سرمديا ..
***
       وزرته مرة فى مسكنه الجديد فى الطابق التاسع من إحدى العمارات الكبيرة فى القاهرة .. فرأيت باب شقته مفتوحًا ، والبواب خارجاً منها يتمتم .. وكان هو جالسًا فى الشرفة ، وأمامه زجاجة من الجعة ، وعينه إلى الطريق ..
       وحييته وجلست ، وأنا أضحك ، فسألنى :
       - لماذا تضحك .. أرأيتها ..؟
       فأجبته وقد استغرقت فى الضحك :
       - لا .. وإنما رأيته هو ..
       ثم أردف :
       - البواب ..؟ .. إنه أحمق ..
       - ولماذا أعطيها ..!
       - هذا توحش .. إنها فقيرة .. ولم تصعد إلى الطابق التاسع لتشاهد مجموعة صور روفائيل ..
       - عدنا إلى الفلسفة .. فقيرة .. لماذا لا تغير طريقة حياتها وتنهج نهجًا مستقيمًا ..! لماذا تصبر على الضيم ..! أنا لست مسئولاً عن هذه الحشرات ..
       وكان الجدال ، مع رجل هكذا شأنه وطريقته فى الحياة لا يجدى ، فصمت وعاد إلى الجعة ..
***
       وكان الليل قد أقبل ، وبدت المساكن المحيطة بنا تعلوها جهامة الحرب .. وسمعنا صفارة الإنذار .. وسرت فى جسمى رعشة .. وتحركت من مكانى ، وتمشيت قليلاً ، ثم عدت ، وقد أخجلنى أنه لم يتحرك ، ولم يغير مجلسه ، ولم يدع كأسه من يده .. ولم تضطرب فيه جارحة ..!
       وبقيت جالسًا فى مكانى .. وغاظنى صمته ورباطة جأشه .. وكنت أود أن أتحرك ، أو أتحدث ، فقد كانت وطأة الصمت ثقيلة على نفسى ، وكانت الغارة تقترن فى ذهنى دائمًا بالأشلاء الممزقة .. والأجسام المدفونة تحت الأنقاض ، والذاهبة فى الجو إربا ، وكل ما هو من هذا بسبيل ..
       وأخذت ألعن الحرب ، وما جرته على الإنسانية من ويلات .. وألعن صاحبى فى سكونه وقوة أعصابه .. وأدركت بعد هذا السكون العميق ، وفى خلال ذلك الصمت الشديد .. لماذا يستمع الناس للموسيقى أثناء الغارة .. ولماذا يمزحون ويضحكون .. فإن الصمت والسكون فى هذه الساعة الرهيبة معناه قتل النفس ، وتمزيق الأعصاب والسير فى طريق الجنون وسمعنا .. صوت المدافع المضادة .
       فسألته :
       - ألا تنزل إلى المخبأ ..؟
       فأدار رأسه ، وكان يبتسم ، وقال فى صوت هادئ :
       - مخبأ إذا شئت أن تنزل فانزل ، أما أنا فسأبقى هنا ، وما من شيء سيجعلنى أتحرك من مكانى .. حتى ولو انطبقت السماء على الأرض ..! أنا طبيب يا رشاد .. وطبيب نفسانى قبل كل شيء .. وأقول لك إن تسعة أعشار ضحايا الغارات الجوية من منخلعى القلوب .. الذين يرتعدون فزعًا من لاشيء .. والغارة قلما تصيب الرجل الكامل الحواس بسوء قط .. وأنت تسمع عن الحاسة السادسة للجندى فى الميدان .. إنها اليقظة .. يقظة الحواس .. فتيقظ واجلس فى مكانك آمنا ..
       - ألا تفكر فى أنك قد تصاب بسوء ..؟
       - إن هذا لا يغير من الأمر شيئا .. ولن أرقد فى حياتى إلا رقدة واحدة ..
       وعاد إلى طبعه فصمت .. واستغرق فى تأملاته .. وكانت زجاجة الجعة قد فرغت ، فنهض وجاء بزجاجة أخرى .. وملأ كأسى وقال ، وهو يرفع كأسه إلى شفتيه :
       - فى صحة سوسو ..!
       فقلت وأنا أضحك :
       - فى صحة سوسو ..!
       ثم سألته :
       - ومن هو سوسو هذا ..؟
       - ألا تعرف سوسو ..؟
       - أبدا ..
       - سوسو هو صديق نعمات هانم .. وأنت لا تعرف نعمات هانم بالطبع .. فى نهاية هذا الشارع ، تجد منزلاً أنيقًا من طبقات خمس .. وهو يستهويك بحسن منظره ، وجمال موقعه .. وفى الطابق الثالث منه تسكن نعمات هانم .. قرعت هذه السيدة بابى فى ليلة من الليالى ، وكانت متغيرة اللون ، ويبدو عليها الاضطراب الشديد .. حتى تصورت أن نازلة نزلت بالأسرة .. وكانت فى ثوب وردى جميل .. ورأيت وجهها على ضوء المصباح الكابى .. وعينيها السوداوين وهما تبحثان عن وجهى .. ولعلها كانت تود أن تتثبت منى أولا .. إذ بادرتنى بالسؤال فى صوت رقيق :
       - حضرتك .. الدكتور عرفى ..؟
       - أجل يا سيدتى ..
       وكنت لا أزال ممسكا بقبضة الباب .. وكانت لا تزال فى الخارج ، ووقع بصرى على صدرها ، بعد أن سكن اضطرابها بعض الشيء ، وعاودها بعض الهدوء .. ورأيت وجهها مرة أخرى خارج دائرة الضوء .. رأيته يضئ فى الظلام ..
       فأحنيت رأسى ، وقلت :
       - تفضلى يا سيدتى .. أنا فى خدمتك ..
       - إنه سوسو .. يا دكتور .. وقد تركته وحده فى المنزل .. يجود بأنفاسه .. فأرجوك .. عجل ..
       وتناولت الحقيبة على عجل ، وذهبت معها إلى بيتها ..
       فتحت بابها .. ودخلت وراءها فى سكون ، واجتزنا البهو ، ومشينا فى ممر طويل .. ودفعت بابا صغيرا ، وأشارت بيدها .. فدخلت غرفة رحيبة مؤثثة بفاخر الرياش ..
       وأدركت ، بعد السكون الذى طالعنى من جوانب البيت ، أنها تمرض سوسو وحدها .. وتقدمت نحو سرير صغير وغمغمت :
       - سوسو العزيز ..!
       ورفعت غطاء من الصوف السميك .. وتصور سوسو العزيز هذا ..! كان كلبا أبيض .. وكان المرض قد أحاله قذرا ، بشع المنظر ..
       فنظرت إليها فى غيظ ، وقلت لها بصوت جاف ينم عن غضبى :
       - أنا طبيب بشرى يا سيدتى .. وهذا كلب ..
       - انا أعرف انك طبيب .. وهذا يكفى ..!
       - أرجو أن تسمحى لى .. قد أضعت وقتى يا سيدتى .. إن هذا عبث ..
       وكانت معتمدة على حاجز السرير ، تلاحظنى بجانب عينيها ، وأنا أرد الأشياء إلى الحقيبة ..
       وتناولت الحقيبة بيدى اليمنى وواجهتها .. فرأيت لونها قد تغير ، وعاودها ذلك الأضطراب الذى بدا على ملامح وجهها .. عندما كانت فى بيتى .. وتحرك انسان العين ، وارتسم الأسى على الشفة ، وجال فى عينيها الدمع ..
       وقالت فى صوت رقيق :
       - أنا لا أفرق بين هذا الكلب .. وبين أى إنسان يا دكتور .. وأنت تعرف إحساس المرأة ، ورقة عواطفها ..
       - وجهى عاطفة الخير فيك يا سيدتى إلى ما هو أسمى من هذا ، إلى الأطفال الفقراء من بنى جنسك ..
       ومضيت إلى الباب .. ومشت ورائى .. وقبل أن ابلغ البهو الخارجى ، سمعتها تقول فى صوت باك :
       - دكتور عرفى .. أنتظر .. ارجوك .. 
       فتلفت .. وأمسكت بيدى ، ونظرت إلىّ نظرة آسرة :
       - أنت طبيب وهذا كلب يتعذب .. افعل شيئا أرجوك ..
       - لا حيلة لى يا سيدتى ..
       - افعل أى شيء لتسكين آلامه .. إنه لا يستطيع أن يتكلم .. أو يبث لواعجه كما يفعل الإنسان .. أعطه مسكنا ..! إنه خير عندى من أى إنسان .. إنه يؤنسنى فى وحدتى .. ويملأ البيت كله حركة .. ينبح ويقفز على الكراسى ، ويلعب فى كل مكان .. ويسهر معى فى الليل .. إنك تعرف العذاب الذى تعانيه المرأة ، وهى جالسة وحدها فى انتظار الرجل .. ويمر نصف الليل ، والساعات الأولى من الصباح ، وهو لا يعود .. وهى ساهرة فى قلق وعذاب .. فإذا عاد أخيرا ، كان ثملا .. أو محطما على مائدة القمار .. أنت تعرف هذا .. افعل شيئا لأجلى ، ولأجل هذا المسكين ..
       إنها مسكينة ، وقد رماها الله بشر ما تصاب به المرأة ، وهو الزوج المقامر .. ولقد حطم الأرق أعصابها ، ومن يدرى ، ربما ذهب هذا الخيال ، وانطفأ ذلك السراج إلى الأبد ..
       ورجعت ، وبذلت ما فى وسعى حتى سكن اضطرابها ، وعادت الابتسامة إلى شفتيها .. وأصبح سوسو من أعزائى ..!
***
       وحدث أن مراقبين من مراقبى المنائر تشاجرا فى منارة فى البحر الأحمر ، وكنت معه فى السويس ، وكان هو طبيب الباخرة التى ستذهب إلى هذين الجريحين .. وتأتى بهما حيين أو ميتين .. وألح علىّ فى أن أرافقه فى هذه الرحلة ، فاعتذرت ، فقد كان الوقت شتاء ، والبحر مركبه صعب ، بيد أنه عاد يلح ويقول :
       - سترى أبدع منظر .. البحر والليل .. وكلاب البحر .. ثم الأسماك الصغيرة التى تأكلها الحيتان الكبيرة ، ولا أحد يسمع صراخها وعويلها .. كل شيء ذاهب فى جوف المحيط ، ثم عروس البحر التى اقتتل عليها هذان الأحمقان ..!
***
       وأقلعت السفينة ، وكان البحر هائجا ، والموج يعلو كالجبال ، والعواصف نكباء ، والسفينة تتلاعب بها الأمواج ، وتعوى فى بروجها الأعاصير ، ومع هذا ، فقد ظللنا طول الطريق نضحك ونمزح ، لأنه كان معنا ، وكان إذا اشتد الموج ، ومالت السفينة اتكأ على الحاجز الحديدى ، وصاح بأعلى صوته :
       - جيوفانى ..
فسألته :
       - من هو جيوفانى هذا ..؟
       - ألا تعرف جيوفانى .. إنه كازانوفا ..!
       فتركته يهذى ..!
***
       وأخذت أفكر فى هؤلاء الناس الذين يعيشون فى هذه المنائر منقطعين عن العمران .. إنهم بواسل ولاشك ، وحياتهم فريدة حافلة بالعجائب وجمح بى الخيال ، وتصورت هذين الجريحين ، وقد مات أحدهما قبل أن يصل الطبيب ، وبقى الآخر بجواره يتعذب ، ويتلوى من الألم ، ومن الرائحة الكريهة التى تنبعث من جثة رفيقه .. وسرت فى جسمى رعدة وحدثت الدكتور عرفى بما يدور فى رأسى ..
       فنظر إلىّ ضاحكا وقال :
       - إنك لأحمق يا رشاد .. وأعصابك تالفة .. وتشحن رأسك بالأوهام .. وهب أن هذا حدث .. فماذا فى هذا ..! سترى كيف يعمل فيهما مشرطى ..! إن المسألة عادة .. وأنت ترتعش عندما ترى وجه ميت ، بينما ينبش اللحادون القبور ، ويسرقون أكفان الموتى ! .. " .
       وتركنى وصعد إلى برج السفينة ..
***
       وكان لابد أن تنتهى حياة ذلك الصديق الفذ بفاجعة .. وقد كان .. وما رقد فى حياته سوى رقدة واحدة كما كان يقدر ..
ـــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
ــــــــــــــــــــــــ


ساعات الهول



ساعات الهول


       فتحت عينى فى ثقل شديد ، وحركت ساقى .. حركت فخذى الأيمن ، وتحسست بيدى موضع الجرح .. يالله ! .. لم يكن هناك جرح ولا قدم ولا ساق .. لقد ذهب ذلك كله فى غير رجعة ، شعرت بقشعريرة شديدة تسرى فى جسمى ، وتملكنى الجزع .. لقد وضحت الحقيقة كنور الشمس ، وغدوت بين عشية وضحاها فى عداد الموتى .. أنا حى .. ولكنى ميت .. ميت فى الحقيقة ..
     مددت ذراعى وحاولت أن أحرك رجلى اليسرى ، فلم أستطع ، هل ذهبت هى الأخرى ..؟ هل قطعوها أيضا ..؟ ياللهول ..! نظرت إلى الفخذ والساق والقدم بأصابعه ، كل شيء باق على حاله ، كل شيء فى مكانه وموضعه من جسمى ، ولكن لماذا لا تتحرك رجلى ..؟ لماذا لا أستطيع تحريكها ..؟ لا أستطيع أن أفهم .. هل سرى فيها التخدير ..؟ هل أصابتها عدوى من أختها ..؟ مسحت بيدى على فخذى ، لأعيد إليها الإحساس ، وأجرى فيها الحرارة ، وحاولت أن أتحرك ، أن أنهض بنصف جسمى ، كما كنت أفعل ذلك من قبل ، وأنا سليم معافى صحيح البدن قوية .. فلم أتمكن .. أغمضت عينى ، وقضقضت بأسنانى ..! ليس على ساقى أربطة ولا جبس ، فلماذا لا أستطيع تحريكها ..؟ دفنت رأسى فى الوسادة ، وأنا أزفر كالمحموم ، أرسلت زفرة محترقة من صدرى ، وأخذت أضرب الوسائد بذراعى ، وحوافى السرير برأسى ، ثم صحت بأعلى صوتى .. تملكتنى ثورة نفسية جامحة .. وسمعت أقداما تتجه إلى الغرفة .. وظهرت ثلاث من الممرضات على الباب ، فنظرت إليهن فى غيظ .. لاشك أنهن وقفن هذه الوقفة ، هادئات جامدات وفى عيونهن تلك النظرات ، عندما كان الطبيب يجزر ساقى ..!! هززت رأسى ، وبرقت عينى .. وجاء الطبيب فحدق فى وجهى برهة .. وتكلم مع إحدى الفتيات .. وجاءت الفتاة فوضعت قطعة من الفلين بين أسنانى ، فمنعتنى من أن أصرف بنابى ، لقد كنت فى حالة هياج وخبل .. شعرت بالغيظ الوحشى ، والحسد الفطرى ، وأنا أنظر إلى الطبيب وهو يلقى الأوامر على الممرضات ، ثم يخرج سائرا على قدميه فى نشاط ومرح ..! يالله .. لن أسير بعد اليوم فى الطرقات ، ولن أخرج إلى المتنزهات ، ولن أزور أحدا ممن كنت أحبهم .. لقد تقطعت بى الأسباب ، أغمضت عينى ، وأرخيت جسمى ، وحاولت أن أوقف حركة تفكيرى .. وسمعت أقدام الممرضات فى طرقات المستشفى .. الأقدام دائما .. كان صوت الأقدام يفزعنى .. وددت لو أغلق عينى وأفتحها فلا أجد إنسانا يقف على قدمين .. وددت أن الناس جميعا عاجزون مقعدون مثلى .. هل سيوصى لى الطبيب بساق خشبية ..؟ يالسخرية الحياة ، وقسوة الزمن ، ويالنحس الساعة المشئومة .. ولكننى لن أفكر فى ذلك .. لا فى تلك الساعة ، ولا فى الزمن ، ولا فى لحظة من لحظات الماضى الرهيب ..
       ناولتنى الفتاة كوبا من الماء .. كان حلقى يلتهب من فرط الغضب .. وكانت تنظر إلىّ نظرة استحياء ، وقد لانت ملامح وجهها ، حتى خيل إلىّ أنها تبتسم فى خبث ، أو تنظر إلىّ فى شفقة ، وتلك سخرية المساخر ..؟ أنا الذى كنت أملأ الدنيا نشاطا وقوة ، أصبح موضع العطف من ممرضة ، تنظر إلىّ نظرتها إلى مسكين .. شعرت بقلبى يتمزق ..! وتحت ثقل الجزع والفزع وثورة الغضب ثقل رأسى ودار .. واستغرقت فى النعاس ..
***
       سبحت بعينى فى الظلام .. السكون يخيم على المستشفى .. كم الساعة الآن ..؟ كم مضى من الليل .. يالله ..؟ .. هل نمت كل هذه الساعات الطوال .. ليتنى ما صحوت .. ليتنى رقدت رقدة الأبد .. ما جدوى الحياة بعد ذلك ، وضعت يدى على جبينى ، كأنما أزيح الستر .. لقد وضحت الأشياء أمام ناظرى الآن .. وظهر جدار الغرفة وأثاثها .. إنها ليست غرفتى ، لقد نقلونى إلى غرفة أخرى ، وربما إلى مستشفى آخر ، من يدرى ..! لعلهم حسبونى مجنونا .. مسحت عينى ، وتململت على السرير ، لقد أراح النوم أعصابى ، أشعر الآن ببعض الراحة ، وأود أتذكر ، أود أن اتذكر كيف حدث هذا ..
       لقد كنت فى تلك الليلة نائما على فراشى .. واستيقظت بعد منتصف الليل على صوت صفارة الإنذار ، وكان من عادتى ألا أتحرك ، مهما كانت الحوادث .. ولكننى رأيت أن أنهض لأفتح زجاج النوافذ ، وأغلق الحواجز الخشبية ، وفى تلك اللحظة سمعت دوى المدافع يصك الآذان ، فوقفت فى وسط الغرفة بضع ثوان .. ثم مشيت إلى النافذة ، وتطلعت إلى السماء .. ياللهول ..!  كانت السماء تتأجج بنار الجحيم ، والأنوار الكاشفة تدور ألسنتها باحثة عن الطريدة .. التى لم تظهر بعد .. ظللت فى مكانى قرب النافذة ، وقد خيل إلىّ أننى قائد يرقب المعركة من فوق ربوة تشرف على الميدان وسكن كل شيء فجأة .. كفت المدافع المضادة عن طلقاتها .. وبلعت الأنوار الكاشفة ألسنتها ، وخيم صمت رهيب فى وسط ذلك الظلام الموحش .. واعتمدت بمرفقى على النافذة ، وقد عاودنى بعض الاطمئنان ، وإذا بى أسمع أزيزا متقطعا .. فرفعت وجهى إلى السماء .. وأصغيت بسمعى .. وفى مثل خطف البرق عادت السماء تتأجج بالنيران .. ودوى قصف الرعد .. دوى ذلك الصوت المزلزل الذى يتصاعد من الأرض ، كان ذلك صوت القنابل ، وهى تدك الأرض ، وتدفع موج البحر ، وتثير البراكين ..! حدث ذلك فى مثل لمح الطرف ، وتصاعد الصياح من كل جانب .. مع صوت النوافذ وهى تغلق ، والمنازل وهى تميد بسكانها .. وتراجعت إلى ردهة البيت ، ووضعت رأسى بين راحتى ..
       حاولت أن أحبس أنفاسى ، وأن أسد أذنى ، ولكن هيهات .. كان صوت القنابل قد اشتد واقترب .. وخيل إلىّ أن المنازل المجاورة أخذت تنهار على من فيها ، كما تنهار السيول من أعلى التل .. إنه الجنون بعينه إذا بقيت فى مكانى ، أخذت أروح وأجئ فى البهو .. وكانت أصوات القنابل لا تزال تدوى وتصم الآذان ، وخيل إلىّ أن الجحيم فتحت أبوابها .. كان كل شيء يميد ويلتهب فى السماء والأرض .. هلى أبقى هنا لأدفن بين الأنقاض ، ولا أحد يعرف مقرى ..؟  وسمعت حركة السكان ، وهم يجرون إلى السلم ، فنزلت مع النازلين إلى المخبأ ..
       وكان الناس يتدافعون فى هذا المكان الضيق بالمناكب ، واختلط كلامهم بصياحهم ، وكان أشد ما يغيظنى صياح النساء كلما أرعد الجو وأبرق ، وزلزت الأرض زلزالها ..
       وظهرت الطائرات بوضوح ، وهى تنقض على أهدافها وخيم على الناس الصمت .. وانهمرت القنابل على ضوء المشاعل ، فبرقت العيون ، واحتبست الأنفاس فى الصدور، وتطلعت الوجوه إلى الوجوه .. كان كل إنسان يود أن يقرأ ما يدور برأس صاحبه ، وما دار فى رءوسنا جميعا إلا خاطر واحد .. خاطر رهيب .. ياللهول ..! أحتبست الألسنة فى الحلوق ، وانقطع الهمس ، حتى الأطفال سكن صياحهم .. وفى تلك اللحظة الرهيبة كانت سحب الظلام الكثيف تغشى كل شيء .. واشتد الصمت الرهيب الموحش .. صمت الحشر .. لا همس ولا حس ، حتى القلوب خيل إلينا أنها كفت من الخفقان .. لم تمر علىّ ساعة قط كتلك الساعة .. شخصت الأبصار واعتلجت الأنفاس ، وحتى هؤلاء الذين كانوا يمزحون ويتندرون ويهونون الأمر على النساء ، ويلاعبون الأطفال ، صمتوا وشحبت وجوههم ، لقد شعرنا جميعا بالخطر المحدق .. وفى خلال ذلك الصمت الرهيب .. دوت القنابل من جديد بفظاعة وعنف .. وصاح الجميع فى صوت واحد ، ودفع بعضهم بعضا ، وتعلق بعضهم بأذيال بعض ..
       كان منظر الأطفال يفتت الأكباد ، ولكنا كنا فى ذهول تام عن كل شيء ، كانت الواعية قد شلت تماما.. لم يكن هناك بصر ولا باصرة .. كنا فى الواقع نرى ولا نرى ، كنا كمن أصابه مس أو أحاطت به الشياطين ..
       خيم السكون من جديد .. سكون الرمس .. ثم عاد أزيز الطائرات ، وصوت المدافع ، وصوت القنابل القريبة وهى تتناثر حوالينا ، وتدافع الناس وماجوا ، وأخذ بعضهم برقاب بعض .. وابتأ الغبار يتسرب إلى المخبأ ، واشتد السعال ، وغامت العيون .. ودوى قصف الرعد ، وتصورت أن القنبلة سقطت فى تلك المرة على أم رأسى ..! وفى حالة هياج وجنون كنت أدفع الناس يمينًا وشمالا ، وأجرى إلى الخارج ..
       ولا أدرى ما الذى حدث لهؤلاء المساكين الذين بقوا فى المخبأ .. فلقد سمعت أن قنبلة مباشرة سقطت عليهم ..! ومزقتهم إربا .. إنى لا أعرف ماذا جرى لى وأنا فى الطريق .. فعندما عدت لنفسى ألفيتنى فى المستشفى الأميرى القائم على الربوة الجميلة .. الذى كثيرا ما شيعته بنظراتى وأنا فى طريقى إلى الرمل .. لم أكن أدرى ، وأنا أرميه بنظرة عابرة من قبل ، أن سيتقرر فيه مصيرى ..! لك الحمد يا رباه هل أنا أحسن حالا الآن من هؤلاء الذين خلفتهم ورائى ، ودفنوا تحت الأنقاض ..؟ هل يمكن أن اتذكر بعض هذه الوجوه الشاحبة ..؟ أبدا ..
       رباه .. لقد بترت ساقى ، وانقطعت أسباب حياتى .. ولن أسعى غدا إلى المحكمة .. ولن أدافع عن الإنسانية المعذبة .. ولن يدوى صوتى كما دوى من قبل فى كل مكان .. لقد أسكتته أصوات القنابل ..
       رباه لست بطلا من أبطال القتال ، ولا جنديا جرح فى الميدان ، حتى يمكننى أن أسير فى الشوارع معتمدا على عكازى .. لا .. لم يكن لى ذلك الشرف ، فكيف أسير كما يسير الجنود والأبطال ..؟ 
       أريد أن أبصر النور .. نور الصبح الجميل ، وأرى أشعة الشمس ، وهى ترقص مع موج البحر ..
***
       استيقظت مبكرا ، وحاولت أن أضطجع على السرير ، فقد مضى علىّ أكثر من أسبوع ، وأنا راقد هكذا ، دون حراك ، كأنى جثة أعدت للتحنيط ..! وتحركت قليلا .. وسمعت صوت أول ترام فى الرمل ، وهو يسير إلى مصايف الثغر ..
ثم سمعت صوت الممرضات فى المستشفى ، وصافحت خياشيمى رائحة العقاقير ، وسمعت حركة العربة المشئومة .. وهى تزحف دون حس حاملة كل يوم جديدًا إلى عالم الموتى .. لقد أحسنوا إلىّ بوضعى فى هذه الغرفة المنعزلة عن المرضى ، فإن وجودهم معى يثير أعصابى .. لم أكن فى يوم من الأيام أشعر بالشفقة نحو المرضى أو العاجزين ، كان قلبى قد قد من صخر ، وكنت أعجب بالقوة أينما وجدت .. كما أحسنوا إلىّ بمنع الزيارات عنى ، فما أحب أن أرى إنسانا .. ما كنت أن أشاهد هؤلاء الحمقى ، وهم يلقون العبارات المكررة التى يحفظـونها عن ظهر قـلب ، والتى تثير الشجون ..! ثم النساء وهن يرسلن العبرات .. تبا لهن  ..!
       لم يعد لى عيش فى المدينة .. وبعد أيام سأذهب إلى مزرعتى فى الريف .. سأقيم إلى نهاية حياتى بين هؤلاء الفقراء البسطاء الشرفاء ، الذين سيعظمونى ويكبروننى ، رغم ضعفى ، ولن ينظر إلىّ واحد منهم نظرته إلى مسكين ، إنهم يعرفون ، ولا أحد يعرف مثلهم ، حكم الأقدار ..
=================================== 
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
================================