الأربعاء، 22 أبريل 2015

النفوس المعذبة



النفوس المعذبة

     أنا أحد أولئك التعساء الذين اضطرتهم ظروف حياتهم إلى العيش فى الريف ، بعد أن قضوا جانبا من شبابهم فى المدينة ، ناعمين بلذائذ الحضر ومتعه .. لقد خلفت ورائى العلم والنور لأعيش فى جحيم الريف بظلامه وجهله ، هكذا شاءت الظروف وشاء القدر .. وليس أسفى على شباب ولى ، وعمر أدبر ، بقدر أسفى على أن السنين العشرين التى قضيتها من عمرى فى القرية ، مرت على منوال رتيب بغيض معذب .. لم يتغير شيء ولم يتبدل ، نفس الوجوه الكالحة الحزينة ، والأبدان الناحلة المريضة ، والنفوس المعذبة الشقية .. كل شيء لم يتغير .. الأكواخ الحقيرة القذرة تتناثر فى بطن الوادى كما تتناثر القبور عند سفح الجبل .. ولها مثل صمتها ووحشتها .. ولولا رغاء البهائم فى الغسق ، وعواء الكلاب فى الليل ، وصياح الديكة عند الفجر ، لخلتها مقبرة من المقابر .. إنها صورة باهتة لرسام مكتئب فقد فى الحياة كل أمل ..
       وزادنى بلاء وكربا موت زوجى ، وكانت أنيسى ورفيقى فى القرية ، فشعرت بعدها بالوحشة والانقباض والضجر ، ولهذا كنت أروح عن نفسى ، فازور أخى فى المدينة ، وكان مهندسا فى القاهرة ..
       بلغت منزل أخى ، فى تلك الليلة التى أروى لك حوادثها ، فى الساعة الثامنة مساء ، مع آخر مسافر اتجه إلى العباسية ، فقد أمرت الحوذى أن يأخذ بعنان جواده ، لأمتع بصرى بأنوار القاهرة ومحاسنها ..
       جلست فى بهو المنزل أنفض عنى غبار السفر ، وأستريح قليلا .. وملت بأذنى إلى حيث تقيم الزوجة .. زوجة أخى .. التى كانت تستقبلنى دائما بفتور المدنية التى تنظر إلى الريفى فى احتقار وتقزز ، على الرغم من كل ما كنت أحمله معى من هدايا ونعم .. وكانت تقول لزوجها ، إنها تشتم رائحة الدريس كلما اقتربت منى ..! ولهذا تود لو تنفضنى بالمكنسة ..! وصحيح أننى كنت أبصق احيانا على الأرض ، وأحول دورة المياة إلى بركة أسنة ، ولكنى كنت مع ذلك أفنديا مهذبا من طراز لا بأس به ..!  وكنت أعجب غاية العجب لنفورها الشديد منى ، ورفع أنفها فى السماء كلما التقت بى ، كأنى أجرب أو مجذوم أو مقطوع الأنف ..؟ وكأنها هابطة من السماء ..! وكنت أبادلها عواطفها .. احتقرها ، وأنفر جدًا من الأحمر الصارخ الذى تلطخ به شفتيها وخديها ، وتلوث به أظافرها .. وأنظر إلى أصابعها ، وهى جالسة إلى مائدة الطعام ، وأعجب ، وأسائل نفسى كيف تسوغ لنفسها الأكل معنا ..؟ ومن عجب أنه على الرغم من كل ذلك ، وما كان بينى وبينها من نفور واحتقار متبادلين ، فقد كانت تتجمل أمامى وتتصنع ، وتبدى زينتها ما خفى منها وما ظهر ، وكنت كريفى ساذج أجهل السبب ، ولا أعرف أن المرأة المتفرنجة تبدى زينتها دائما لغير بعلها ..!
       عجبت للصمت الذى خيم على المنزل .. بيد أنى سمعت بعد دقائق إسماعيل يتحدث فى المطبخ .. ولم يكن يحادث نفسه بالطبع ، على الرغم من أن هذا يحدث له كثيرًا ! .. وأنصت .. فسمعت صوتا ناعما متكسر النبرات .. صوت إمرأة .. ولكنه ليس بصوت إحسان هانم .. هل تزوج أخى مرة رابعة ، وطلق هذه المرأة الملعونة ..؟ لله الحمد ..
       تنفست الصعداء ..! وصفقت هاتفا بإسماعيل .. صفقت كما لو كنت أصفق فى بيتى فى القرية ، ونسيت الجرس الكهربائى المتدلى ، الذى كانت إحسان هانم تأمرنى باستعماله ، كلما عنت لى حاجة ، وطلبت الخدم .. وكانت تقول الخدم دائما ، مع أنه ليس فى بيتها إلا خادم أعرج أبله .. فما من إنسان يستطيع الصبر على خدمتها .. وكانت تقول دائما إن الخدم يجلبون معهم القذارة من السوق ..!
       صفقت مرة ثانية .. وجاء إسماعيل يطلع .. فسألته عن سيده فأخبرنى بأنه سافر مع الست إلى الإسكندرية ، لأن والدة الست ماتت ..! وعلى الرغم من أن المرحومة ظلت عشرين عاما تنعتنى بأقبح النعوت ، وتقول لزوج ابنتها إنى مستول على الإرث كله ، وآكله فى بطنى ..! ولا أدع لإخوتى شيئا ، ولا أعينهم بسحتوت .. فإنى قرأت الفاتحة على روحها .. وطلبت من الله أن يسكنها فسيح جناته ..! والواقع أن الجفاء بينى وبين المرحومة بدأ فى الوقت الذى يئست فيه نهائيا من زواج ابنتها الصغرى منى ، بعد أن تزوج أخى بإحسان هانم – كما كانت تنعت نفسها دائما ـ  أخذت المرحومة بعد زواج أخى ترمى حولى الشباك لتوقعنى فى المصيدة ، كما صادت أخى .. ولكنى كنت أبرع من أن أقع فى الفخ .. فأفلت من يدها .. وظلت بعد ذلك عشرين عاما تطلق لسانها الطويل فى وتقبح زوجى المسكينة ، وتحث أخى على أن ينفصل .. ويدير شؤونه بنفسه .. ولكنه كان أضعف من أن يفعل ذلك ..!  اضطجعت على الكرسي ، وأنا أفكر فى القطار الذى سيقلنى إلى الإسكندرية لأعزى .. وشعرت ببعض الكآبة لأننى سأضيع يوما من أيام تنزهى فيما لا يجدى ..! وسمعت حركة أقدام خفيفة .. ووقفت أمامى فتاة فى ثوب أبيض .. تقدم لى القهوة .. ورفعت عينى إلى وجهها الجميل .. نظرت إليها نصف دقيقة كاملة ، وفمى مفتوح من الدهش .. سبحان الخالق العظيم .. تناولت قدح القهوة من الفتاة ، ووددت لو أتناول يدها لأشد عليها بحرارة ، أو أقبلها كما يفعل الحضرى تمامًا ..
       وسألتها ، وعيناى تلتهمان وجهها المضطرم خجلا :
       - مصرية يا بنيتى ..؟
       - أيوه .. يا سيدى ..
       وتراجعت إلى الوراء خطوتين ومدت قامتها ، وعيناها تلمعان من خلال أهدابها الغزار ..
       وأخذت أحتسى القهوة على مهل وأفكر .. وأسائل نفسى .. هل الفتاة ، وهى آية من آيات الله فيما صور من حسن ، وصيفة ..؟ خادم .. لتلك المرأة الورهاء الدميمة .. التى لا أشبهها إلا بعود الذرة ، فى يبسها وتعرى عظامها من اللحم ..! هل هذه خادم لزوج أخى ..! يالسخرية الحياة .. ويالقسوة المجتمع ..
       ناولت الفتاة القدح الفارغ شاكرا ممتنا ومشيت إلى غرفة سيدها لأخلع ملابس السفر .. ولقد كنت دائما أنام فى هذه الغرفة كلما زرت القاهرة ، لأبين لإحسان هانم مبلغ سطوتى على زوجها ..!
       وعدت إلى مكانى فى البهو .. والفتاة واقفة أمامى .. تؤنسنى بحديثها العذب .. وعلمت منها أن لها شهورا ثلاثة فى المنزل .. وأن سيدها طيب بعكس سيدتها .. وأنها لولا سيدها لغادرت المنزل من أول ليلة .. وكانت تتبسط معى فى الحديث وتسمينى بالسيد الكبير ..! وفهمت من حديثها أنها تعرف الكثير عنى .. فكلما جاءتهم صفيحة من السمن .. عرفت مرسلها .. عرفت أنها من سيدها الكبير فى القرية ..!
       وتعشيت وخرجت إلى ملهى فى قلب المدينة .. وصورة الفتاة حورية – كما كان يسميها إسماعيل – لم تزايل مخيلتى ..
***
       كان الليل فى أخرياته عندما فتحت لى الفتاة الباب .. فقد بقيت ساهرة تنتظرنى .. ونام إسماعيل فى غرفته فى السطح .. وشكرت الفتاة على تعبها وتحملها مشقة السهر لأجلى .. وشعرت بعد وقت قصير بالسكون المطلق .. هدوء الصحراء .. فلا همس ولا حس .. فأنا وحيد مع حورية فى المنزل .. بل وحيد معها فى شرق العباسية كلها ، بل فى الصحراء جمعاء ..
       جلست على كرسى طويل ذى ذراعين ، والفتاة معتمدة براحتها على خوان للملابس .. تحادثنى ، وهى فى لباس أزرق مطرز الأطراف .. وشعرت بسعادة لا توصف ، ونسيت الريف بظلامه ووحشته .. وأدركت أن النعيم المقيم فى هذا المنزل .. وظلت الفتاة تحادثنى إلى أن قرأت النوم فى عينى .. فحيتنى وانصرفت إلى غرفتها ..
       واستيقظت مبكرا فى صباح اليوم التالى .. على رنين الجرس وهو يدوى فى إزعاج ، وقامت الخادم مذعورة .. وفتحت الباب فإذا به أخى وزوجه ، وقد أقصرا وعادا من السفر .. يالله .. شعرت بقلبى يغوص فى قدمى عندما وقع نظرى على هذه المرأة ..!
       حيتنى فى فتور ، وعيناها ترميانى بالنظر الشزر .. على الرغم من أنها تلبس السواد وتتظاهر بالحزن .. فلو كانت حزينة لكسر الحزن من حدتها .. ولكنها لم تكن أمامى إلا نمرا أرقط ..!
       وأفطرنا .. وراعنى وأفزعنى .. أنها ظلت طول وقت الطعام ترمى الخادم المسكينة بقذائف من الشتائم البذيئة .. والبنت الفاضلة لا ترد عليها ، بل تخفض بصرها فى صمت وألم ظاهرين ..
       واستمرت هذه المعركة من الشتائم الوقحة .. طول مدة وجودى معهم ، وكانت تتعلل بأتفه الأشياء لتثير عاصفة فى المنزل .. فإذا أصاب السيدة المصون صداع .. فحورية هى السبب ..!  وإذا توعك مزاجها .. فهى السبب أيضا .. وهكذا ..! والويل لها إذا كسر طبق ، أو تهشمت إحدى الأوانى الزجاجية .. فإلى الجحيم هى ومن جاء بها ، ولا سبب لهذا العراك المستمر .. هذا العراك الأبدى .. سوى أن السيدة قبيحة دميمة .. والخادم جميلة فاتنة .. هذا هو السبب ، ومن الغريب أن أخى النطع ..! – وقد كان نطعا على الرغم من أنه كان مهندسا بارعا – لم يدرك سر هذه المعركة .. ولم يحاول أن يدافع عن هذه النفس المعذبة بكلمة .. وكان إذا استفحل الأمر ، وانقلبت الشتائم البذئية إلى ضربات موجعة .. رأيته يفتح فمه ، فأنظر إليه بجانب عينى لأحميه على الكلام والتدخل .. ولكنى أراه يفتح فمه كالأبلة ، ولا ينبس ، ثم يأخذ وجهه فى الإصفرار ..! ولاشك أنه أحب هذه النفس المعذبة ، وهو الذى جاء بها .. وكان يعيدها كلما طردت ليمتع نظره بها .. ويخفف عن نفسه بعض ما يعانيه من زوجه ..!
       نظرت إلى الفتاة المسكينة فى حسرة ، وأخذت أسائل نفسى ، كيف أنقذها من هذا البلاء .. وهب أنها خرجت من هذا المنزل ، فمن المحتمل جدًا أنها تقع فى براثن نمرة أخرى كهذه ، أو ذئب من الرجال فيفترسها ناضجة .. ماذا أعمل لإنقاذها .. وليغفر لى الله ما تقدم من ذنبى وما تأخر ! .. لماذا لا آخذها معى إلى القرية .. ومثلها من يؤنسنى فى وحشتى ، ويجعل الريف فى عينى جنة ..
       وفكرت طويلا فى الأمر .. وأفضيت إلى أخى بما استقر عليه رأيى ، فنظر إلىّ ضاحكا وحسبنى أمزح .. فلما تبين أن الأمر جد ، عاد إلى بلاهته ودهشه ، وفتح فمه وصمت ..!
       ورأيت أن يتم القران فى بيت أخى لتموت زوجته من الكمد ..! وفى المساء تم العقد .. وظلت زوجة أخى محتبسة فى غرفتها تتميز من الغيظ .. أما حورية فقد كانت فى حفل من الزينة .. كانت فى جمالها وفتنتها كأنها حورية من الجنة ..!!
ــــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
ــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق