الأربعاء، 22 أبريل 2015

الدراجة



الدراجة

حدث منذ سنوات أثناء أزمة المساكن أن انتقلت فجأة من الإسكندرية إلى العاصمة فأخذت أبحث عن مسكن فى قلب القاهرة فلم أوفق .. وأخيرا اهتديت إلى سكن حديث بضاحية مصر الجديدة .. فى عمارة ضخمة على حدود الصحراء ..
وكان من ثلاث غرف فى شارع هادىء جميل يطل على الصحراء مباشرة وشعرت بعد أن حجزت الشقة وتسلمت من المالك المفتاح .. وسرت فى الشارع الطويل الذى يشق الصحراء وقرص الشمس يتوهج ويضع خده على الرمال الناعمة .. أن شيئا جديدا ورائعا يتولد فى داخل نفسى ..
وقبل اليوم الأخير من الشهر نقلت " العفش " .. وجلست فى الشرفة الفسيحة أرقب المكان .. وفى نفسى فضول واحساس كل ساكن جديد ..
كان المنزل فى نهاية الشارع .. وأمامه ميدان فسيح لم يخطط بعد .. وكان هناك كشك لبائع كازوزة وثلج يقوم فى الأرض الفضاء المجاورة وقد غرس فى الرمال ..
ورأيت رجلا يلبس لبدة ينام فى ظل الكشك .. وشابا يحمل خيشة على كتفه .. ويمضى إلى البيوت المتناثرة ..
وكان الشارع لم يتم .. ولذلك ترك المنتزة العام كما رسم على الخريطة ..
وكانت هناك بناية ضخمة على بعد مائتى متر .. ولم أكن أعرف أهى مدرسة أم مستشفى .. وكان المقاول قد تركها سوداء للريح .. والرمال السافية ..
ورأيت سيدة تدفع أمامها عربة أطفال .. وأخرى تحمل سلة صغيرة وراجعة من السوق .. وعربة رحلات خالية تدور فى الميدان ..
وكانت معى خادم عجوز تطهو لى طعامى وتقوم بأعمال البيت ومنذ انتقلت إلى المسكن الجديد وهى تظهر استياءها من المكان برغم جمال الشقة لأنها فى نظرها بعيدة عن السوق .. وتستغرق ساعة من وقتها لمجرد شراء رطل من الخضار .. وكيف تأتى بالجاز والصابون والثلج .. على أن استياءها خف عندما وجدت باب المطبخ يفتح مباشرة على الجيران ووجدت سيدة طيبة فى المطبخ المجاور فأخذت تتسلى معها من خلال الباب المفتوح تتحدث وتثرثر فى كل الشئون التافهة ..
والواقع أن العمارة على كثرة ما فيها من شقق وطوابق كانت كأنها مهجورة أو نزح سكانها إلى المصايف وكنا فى حر أغسطس وناره .. ونفيسة التى كانت تروى لى كل يوم على الطعام فى الإسكندرية حديثا مثيرا عن السكان .. قد وجدت نفسها فى هذا البيت عاجزة تماما عن رواية أى شىء على الاطلاق ..
والواقع أن السكون كان يخيم على كل شىء فى الصحراء والعمارة .. وكانت العمارات المتناثرة فى الحى أشد سكونا ..
وكان هذا السكون المثير يغرينى على التأمل والمتعة .. والجلوس كثيرا فى الشرفة .. ورأيت السيدة جارتى من الشرفة .. وكانت متوسطة العمر وتلبس ثوب الحداد .. وكان وجهها الأبيض المستدير تضيئه أبدا بسمة حلوة .. وكانت تقيم معها فتاة لفاء العود .. عيناها عسليتان .. وخدها يحمر كالتفاح كلما التقت بى فجأة ..
وعلمت من نفيسة أنها ابنة الجارة وأن لها ابنا آخر تلميذا فى الكلية الحربية ويأتى لزيارة الأسرة كل خميس .. ولم يكن فى بيتهم خدم ..
ورأيت الفتاة أكثر من مرة فى الشرفة .. وعلى باب المطبخ .. وركبت معى الأسانسير .. وكانت خجول تسيل رقة .. ولا تبرح البيت إلا لشراء الأشياء من السوق ..
أما الأم فقد تلقت جيرتى بترحاب ومودة .. فقد أبعدت عنها الروع الذى دمر أعصابها فان ابنها لا يأتى إلا فى الأسبوع مرة .. ولقد عاشت ستة شهور .. تأتنس فى الليل بصوت الكلب الذى ينبح على الناصية .. ولما فتحت عينيها ذات صباح على عربة العفش فى الشارع طارت من الفرح ..
وهكذا أصبحت للسيدة خديجة أكثر من ابن ولابنتها وداد أكثر من أخ ..
وفى خلال شهور أربعة .. امتزجنا حتى أصبحنا أسرة واحدة ..
***
وحدث فى أصيل يوم أن سمعت صراخا عند الجارة يأتى من المطبخ .. فجريت إليها وأنا أتصور أن النار اشتعلت فجأة .. ولكنى وقفت على الباب مسمرا .. فقد كانت وداد ملقاة على البلاط متخشبة .. وفى حالة صرع .. وأسعفناها فى مكانها .. حتى استفاقت ولكنها ظلت تبكى ..
وأخذت أمها تسألها عما حدث .. ولكن الفتاة لم تفتح فمها .. وكان الجواب بكاء أكثر ..
وأشرت على والدتها أن تحملها مع نفيسة إلى الفراش .. ولا تسألها عن شىء ..
وفى المساء سألت الأم :
ـ كيف حال وداد ..؟
ـ تحسنت كثيرا ..
ـ هل تشنجت من قبل ..؟
ـ أبدا هذه .. أول مرة ..
ـ هل هى مخطوبة .. وحدث خلاف بينها وبين خطيبها ..؟
ـ لا .. ليست مخطوبة .. ونحن كما ترى فقراء .. ومعاش الوالد يذهب كله فى تنشئة عادل ..
وعلمت من السيدة خديجة أن ابنتها وداد هادئة الأعصاب ومستريحة فى حياتها البيتية .. ولا تشكو بعد وفاة والدها من أى شىء .. لا ينقصها الحنان ولا المال ..
ومر يومان ونسينا الموضوع ..
***
وعصر يوم الأربعاء .. دخلت المطبخ فوجدت وداد هناك .. ولاحظت أنها لما سمعت جرس المطبخ امتقع لونها ..
ثم فتحت نفيسة الباب وتناولت قطعة من الثلج .. من الغلام ..
وكان من عادة وداد كلما رأتنى أن تنساب إلى شقتها .. ولكن فى هذه المرة بقيت فى بيتى .. ورأيت فى عينيها الراحة .. ونظرة الأمان ..
                                  ***        
وقابلت السيدة خديجة وابنها الطالب فى الحربية ووداد فى غروب يوم عند محطة الأتوبيس ولما رأتنى السيدة ابتسمت .. وقالت :
ـ نرافق عادل .. كل جمعة .. نركب معه الأتوبيس لغاية العباسية .. لكن النهاردة أنا تعبانه .. مش رايحة ..
ـ لازم نروح يا ماما ..
وابتسمت السيدة ونظرت إلىّ .. وضحكت .. وبعد ثوان كنا نضحك جميعا ..
وجاء الأتوبيس ..
فركب عادل ..
ـ هيا يا ماما ..
وركبت وداد ..
ـ والنبى تركب معاهم .. يا منصور يا بنى لغاية المدرسة أنا تعبانه صحيح .. حنتظركم فى البلكون ..
وركبت الأتوبيس دون أن أهيىء نفسى لهذه الرحلة ..
وعلى باب الكلية ودعت أخاها .. ولاحظت أنها متعلقة به كثيرا ..
ووقفنا عند كوبرى القبة ننتظر الأتوبيس ..
وطال انتظارنا ..
وأخيرا قلت لوداد :
ـ نتمشى لغاية منشية البكرى ..
ـ بل .. لغاية مصر الجديدة ..
ـ تستطيعين هذا ..؟
ـ طبعا .. وسترى ..
ومشينا فى الشارع الطويل تحت الأشجار .. وكانت المصابيح تلمع فى أرض الشارع المرصوف والسيارات الخاصة تخطف بجوارنا ..
وظللنا فترة طويلة صامتين ولم أجرؤ حتى على مجرد لمس يدها .. ثم تفتحت نفوسنا مع الهواء الطلق والليل الحالم .. وتحدثنا وتلامست أيدينا وتشابكت عن قصد .. وعن غير قصد .. ولقد شاء القدر الذى وضع هذه الفتاة فى طريقى .. ثم جمعنى بها فى هذه الليلة الحالمة .. ولم أكن أتمنى أكثر من أن نسير ونسير .. وخيل إلىّ بعد ربع ساعة أننا نركب زورقا ذهبيا وأننا نجدف فى بحيرة ساكنة .. وتلمع فى سمائها النجوم .. وعلى ماء البحيرة يتراقص الشعاع .. وأننى قد تركت المجداف مرة .. ورششت شعر وداد الذهبى بالماء .. فضحكت حتى اهتز صدرها ولمع لؤلؤ ثغرها ..
واستفقت من هذا الحلم على جرس دراجة تمضى مسرعة بجوارنا .. وشعرت بجسم وداد يلوذ بى وبيدها تضغط على يدى ..
وسألتها بصوت الحالم :
ـ خائفة ..؟
ـ لا .. وأنا معك لا أخاف من شىء ..
وسألتها وقد رجعنا نتحدث عن حياتها :
ـ لاحظت أنك تحبين عادل كثيرا ..؟
ـ أنه أملنا الوحيد .. وماما تحبه أكثر .. وأكثر ..
ـ شعور الأم طبيعى .. وهى من جيل مضى .. أما أنت فدعيه يكون شخصيته كرجل ..
ـ هذا ضعف فى بناء الأسرة المصرية .. مرض عام .. فماذا نفعل .. وأنت ألست تحب أخاك وأختك ..؟
ـ ليس لى أحد ..
ـ خالص .. مقطوع من شجرة ..؟
ـ مقطوع من شجرة ..
وسمعت زقزقة .. ثم غرغرة .. كغرغرة العصفور .. وهو يشرق بالماء .. ولم أسمع أجمل من هذا الصوت فى حياتى ..
ـ ونفيسة .. عندك من زمان ..؟
ـ عشر سنوات ..
ـ لكن دى ماتعرفش تطبخ خالص .. أنت تخرج من هنا لشغلك .. وهى تجرى على ماما .. تسألها عن أبسط شىء ..
ـ أعرف هذا .. ولكن الكمال فى هذا الصنف من النساء متعذر .. وأنا لا يعنينى الطعام .. بقدر ما يعنينى أن أنام فى أمان .. وهى تنام كما تعرفين فى البيت .. ويهمنى أن أطمئن على أنها لا تفتح الباب فى الظلام لرجل يخنقنى .. وأنا نائم ..
وجفلت وداد وضغطت على يدى .. وأنا أقول هذا ..
ـ وأنا أفكر فى أن أضع حدا .. لهذه الحياة .. أفكر فى أن أستقر .. وأكون أسرة ..
ـ وما الذى يمنعك ..؟
ـ كلما فكرت فى التنفيذ .. وجدت طاقتى تتجه إلى المشروعات .. فكرت أكثر من مرة فى أن أترك عملى فى الشركة .. وأنشىء مصنعا للصابون .. أو معملا للنسيج ..
ولما كثرت حركة البناء فكرت فى مصنع للطوب .. وعندما شحت الأدوية وارتفعت أسعارها فكرت فى مخزن للأدوية .. ولما ازدادت حركة الأعمال .. فكرت فى أن أكون مورد أنفار .. أفكر فى أى عمل حر ..
ـ هذا تفكير طبيعى لكل شاب يتفجر بالحياة ..
ـ وأنا أفكر الآن فى أن أحملك على ذراعى .. وأمضى بك بين السحاب ..
ـ ما هذا الخيال ..!!
وضحكت ..
وقلت :
ـ عندما كنت فتى صغيرا .. كانت تأتى لبيتنا فى الريف فتاة صغيرة حلوة اسمها وداد .. وكانت والدتى تقول لها بمجرد أن تراها .. تعالى يا وداد العبى مع منصور .. ولم أكن أتصور .. أننى سألتقى بوداد .. أجمل وأنضر بعد كل هذه السنين ..
ـ إن حياة الوحدة جعلتك شاعرا .. فماذا أقول ..
ـ ولكننى لست وحيدا الآن .. وما أحسبنى سأكون وحيدا بعد ذلك ..
ـ إنك لا تفكر فى القدر .. والحياة ..
ـ أفكر .. ولكن يجب أن نفكر أولا فى الشىء الذى نصنعه بأنفسنا ..
وكنا قد دخلنا فى مصر الجديدة واقتربنا من حينا فتمهلنا فى السير .. وسألتها :
ـ منذ متى تركت المدرسة ..؟
ـ بعد وفاة والدى مباشرة .. مضى أكثر من أربع سنوات ..
ـ ولماذا السواد .. بعد كل هذه السنين ..؟
ـ إنه مظهر خارجى .. لكننى الآن أشعر بأن نفسى لا ينقصها أى شىء تحزن عليه ..
ـ تحدث أشياء غريبة فى الحياة ..
ـ لقد كنت أول من رأى عفشك لما وقفت العربة التى تحمله على الباب .. ولم أكن قد رأيتك أو رأيت نفيسة .. ولكننى شعرت بفرحة .. فرحة عظيمة .. وتصورت أنه عفش عرس صاعد إلى البيت الذى أحبه ..
وأمسكت بيدها .. وظللنا صامتين .. وقلبانا يخفقان فى هذا السكون ..
وفى داخل بيتها كانت تود أن تقول لى شيئا .. ولكن شفتيها ارتجفتا .. فدخلت إلى حجرتها وتركتنى مع والدتها ..
***
وقبل منتصف الليل سمعنا صرخة وداد مرة أخرى ..
ولما فتحت عليها الباب كانت متخشبة فى المطبخ ..
ولم أستطع أنا ولا استطاعت أمها أن تعرف سبب هذا التشنج .. وانصرفت الأم بعد أن يئست .. إلى الأحجبة وزيارة الأسياد ..
وجعلنى هذا العارض أكثر تعلقا بالفتاة وشفقة عليها ..
فأصبحت أكثر من الجلوس معها والحديث إليها .. وامتزجنا فتلاقت عواطفنا .. وكانت تجرى إلى بيتى بمجرد عودتى من العمل ..
وكانت تأتى إلىّ فى أجمل زينة وأبسط فستان وتضحك وتمرح ثم أرى السهوم والوجوم على وجهها فجأة .. وأعجب لتغير حالها ..
وذات ليلة لاحظت وهى تحادثنى أنها تنصت بانتباه تام وقد جمدت سحنتها إلى جرس دراجة مكتوم فى الشارع .. ومشيت إلى الداخل كأنى أجىء بعلبة السجائر .. لأنظر من الشرفة .. ولكننى لم أجد أحدا .. وكان الظلام يخيم ..
***
وفى ليلة من الليالى .. وبعد أن غاب القمر .. سمعت صوت رجل يقول لنفيسة فى المطبخ :
ـ طلبت زبادى ..؟
ـ لأ ..
ـ أمال مين الست اللى بتنده ..
ـ مش عندنا ..
وبعد دقيقة سمعت جرس العجلة المكتوم فى الشارع ..
***
وكنا فى بيت وداد .. ذات ليلة .. وأمها تقص علينا حديثا ممتعا عن حياتها مع المرحوم وكيف منعها من التردد على حفلات الزار .. كلية .. عندما سمعنا صرخة مفزعة .. فجرينا إلى الشرفة .. ووجدنا الناس مثلنا قد فتحوا النوافذ ووقفوا فى الشرفات .. وكان الظلام رهيبا والصراخ يشتد ولا ينقطع .. كان عويل فتاة يمزق السكون كأنها تندب أباها ..
وفجأة برز شىء أسود ينطلق كالصاروخ .. على العجلة ..
ومن خلال الصياح دوت طلقة ..
وخيم بعدها السكون ..
ولم يعرف أحد من الذى أطلق النار .. قالوا أنه صاحب كشك .. الكازوزة سمع الصراخ ورأى الرجل يمضى كالسهم على الدراجة .. فأراد أن يعطلها عن السير فأخطأ الدراجة وأصاب الرجل .. وقالوا أنه والد الفتاة نزل إلى الشارع وأطلق النار ..
وعندما اقتربوا منه وجدوه ملقى فى الحفرة والدم ينزف .. وبجانبه الدراجة .. وكان معه سكين حادة .. وبجانبه سلطانية الزبادى مقلوبة وبها كان يتعلل ويصعد البيوت إلى فريسته ..
ووجدوا الفتاة التى قاومته بعنف ممزقة الملابس .. ومطعونة فى صدرها ..
ولما علمت وداد بما حدث للرجل .. ارتمت على صدر أمها وهى تبكى من الفرح .. ولم نسألها عن شىء .. ولم يعاودها التشنج قط بعد ذلك ..
ولكنها ظلت طول حياتنا الزوجية لا تدع بائعا من الطريق يصعد إلى بيتنا ..
========================
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 252 بتاريخ 22/10/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الذئاب الجائعة " الطبعة الثالثة سنة 1961
=======================




    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق