الأربعاء، 22 أبريل 2015

ساعات الهول



ساعات الهول


       فتحت عينى فى ثقل شديد ، وحركت ساقى .. حركت فخذى الأيمن ، وتحسست بيدى موضع الجرح .. يالله ! .. لم يكن هناك جرح ولا قدم ولا ساق .. لقد ذهب ذلك كله فى غير رجعة ، شعرت بقشعريرة شديدة تسرى فى جسمى ، وتملكنى الجزع .. لقد وضحت الحقيقة كنور الشمس ، وغدوت بين عشية وضحاها فى عداد الموتى .. أنا حى .. ولكنى ميت .. ميت فى الحقيقة ..
     مددت ذراعى وحاولت أن أحرك رجلى اليسرى ، فلم أستطع ، هل ذهبت هى الأخرى ..؟ هل قطعوها أيضا ..؟ ياللهول ..! نظرت إلى الفخذ والساق والقدم بأصابعه ، كل شيء باق على حاله ، كل شيء فى مكانه وموضعه من جسمى ، ولكن لماذا لا تتحرك رجلى ..؟ لماذا لا أستطيع تحريكها ..؟ لا أستطيع أن أفهم .. هل سرى فيها التخدير ..؟ هل أصابتها عدوى من أختها ..؟ مسحت بيدى على فخذى ، لأعيد إليها الإحساس ، وأجرى فيها الحرارة ، وحاولت أن أتحرك ، أن أنهض بنصف جسمى ، كما كنت أفعل ذلك من قبل ، وأنا سليم معافى صحيح البدن قوية .. فلم أتمكن .. أغمضت عينى ، وقضقضت بأسنانى ..! ليس على ساقى أربطة ولا جبس ، فلماذا لا أستطيع تحريكها ..؟ دفنت رأسى فى الوسادة ، وأنا أزفر كالمحموم ، أرسلت زفرة محترقة من صدرى ، وأخذت أضرب الوسائد بذراعى ، وحوافى السرير برأسى ، ثم صحت بأعلى صوتى .. تملكتنى ثورة نفسية جامحة .. وسمعت أقداما تتجه إلى الغرفة .. وظهرت ثلاث من الممرضات على الباب ، فنظرت إليهن فى غيظ .. لاشك أنهن وقفن هذه الوقفة ، هادئات جامدات وفى عيونهن تلك النظرات ، عندما كان الطبيب يجزر ساقى ..!! هززت رأسى ، وبرقت عينى .. وجاء الطبيب فحدق فى وجهى برهة .. وتكلم مع إحدى الفتيات .. وجاءت الفتاة فوضعت قطعة من الفلين بين أسنانى ، فمنعتنى من أن أصرف بنابى ، لقد كنت فى حالة هياج وخبل .. شعرت بالغيظ الوحشى ، والحسد الفطرى ، وأنا أنظر إلى الطبيب وهو يلقى الأوامر على الممرضات ، ثم يخرج سائرا على قدميه فى نشاط ومرح ..! يالله .. لن أسير بعد اليوم فى الطرقات ، ولن أخرج إلى المتنزهات ، ولن أزور أحدا ممن كنت أحبهم .. لقد تقطعت بى الأسباب ، أغمضت عينى ، وأرخيت جسمى ، وحاولت أن أوقف حركة تفكيرى .. وسمعت أقدام الممرضات فى طرقات المستشفى .. الأقدام دائما .. كان صوت الأقدام يفزعنى .. وددت لو أغلق عينى وأفتحها فلا أجد إنسانا يقف على قدمين .. وددت أن الناس جميعا عاجزون مقعدون مثلى .. هل سيوصى لى الطبيب بساق خشبية ..؟ يالسخرية الحياة ، وقسوة الزمن ، ويالنحس الساعة المشئومة .. ولكننى لن أفكر فى ذلك .. لا فى تلك الساعة ، ولا فى الزمن ، ولا فى لحظة من لحظات الماضى الرهيب ..
       ناولتنى الفتاة كوبا من الماء .. كان حلقى يلتهب من فرط الغضب .. وكانت تنظر إلىّ نظرة استحياء ، وقد لانت ملامح وجهها ، حتى خيل إلىّ أنها تبتسم فى خبث ، أو تنظر إلىّ فى شفقة ، وتلك سخرية المساخر ..؟ أنا الذى كنت أملأ الدنيا نشاطا وقوة ، أصبح موضع العطف من ممرضة ، تنظر إلىّ نظرتها إلى مسكين .. شعرت بقلبى يتمزق ..! وتحت ثقل الجزع والفزع وثورة الغضب ثقل رأسى ودار .. واستغرقت فى النعاس ..
***
       سبحت بعينى فى الظلام .. السكون يخيم على المستشفى .. كم الساعة الآن ..؟ كم مضى من الليل .. يالله ..؟ .. هل نمت كل هذه الساعات الطوال .. ليتنى ما صحوت .. ليتنى رقدت رقدة الأبد .. ما جدوى الحياة بعد ذلك ، وضعت يدى على جبينى ، كأنما أزيح الستر .. لقد وضحت الأشياء أمام ناظرى الآن .. وظهر جدار الغرفة وأثاثها .. إنها ليست غرفتى ، لقد نقلونى إلى غرفة أخرى ، وربما إلى مستشفى آخر ، من يدرى ..! لعلهم حسبونى مجنونا .. مسحت عينى ، وتململت على السرير ، لقد أراح النوم أعصابى ، أشعر الآن ببعض الراحة ، وأود أتذكر ، أود أن اتذكر كيف حدث هذا ..
       لقد كنت فى تلك الليلة نائما على فراشى .. واستيقظت بعد منتصف الليل على صوت صفارة الإنذار ، وكان من عادتى ألا أتحرك ، مهما كانت الحوادث .. ولكننى رأيت أن أنهض لأفتح زجاج النوافذ ، وأغلق الحواجز الخشبية ، وفى تلك اللحظة سمعت دوى المدافع يصك الآذان ، فوقفت فى وسط الغرفة بضع ثوان .. ثم مشيت إلى النافذة ، وتطلعت إلى السماء .. ياللهول ..!  كانت السماء تتأجج بنار الجحيم ، والأنوار الكاشفة تدور ألسنتها باحثة عن الطريدة .. التى لم تظهر بعد .. ظللت فى مكانى قرب النافذة ، وقد خيل إلىّ أننى قائد يرقب المعركة من فوق ربوة تشرف على الميدان وسكن كل شيء فجأة .. كفت المدافع المضادة عن طلقاتها .. وبلعت الأنوار الكاشفة ألسنتها ، وخيم صمت رهيب فى وسط ذلك الظلام الموحش .. واعتمدت بمرفقى على النافذة ، وقد عاودنى بعض الاطمئنان ، وإذا بى أسمع أزيزا متقطعا .. فرفعت وجهى إلى السماء .. وأصغيت بسمعى .. وفى مثل خطف البرق عادت السماء تتأجج بالنيران .. ودوى قصف الرعد .. دوى ذلك الصوت المزلزل الذى يتصاعد من الأرض ، كان ذلك صوت القنابل ، وهى تدك الأرض ، وتدفع موج البحر ، وتثير البراكين ..! حدث ذلك فى مثل لمح الطرف ، وتصاعد الصياح من كل جانب .. مع صوت النوافذ وهى تغلق ، والمنازل وهى تميد بسكانها .. وتراجعت إلى ردهة البيت ، ووضعت رأسى بين راحتى ..
       حاولت أن أحبس أنفاسى ، وأن أسد أذنى ، ولكن هيهات .. كان صوت القنابل قد اشتد واقترب .. وخيل إلىّ أن المنازل المجاورة أخذت تنهار على من فيها ، كما تنهار السيول من أعلى التل .. إنه الجنون بعينه إذا بقيت فى مكانى ، أخذت أروح وأجئ فى البهو .. وكانت أصوات القنابل لا تزال تدوى وتصم الآذان ، وخيل إلىّ أن الجحيم فتحت أبوابها .. كان كل شيء يميد ويلتهب فى السماء والأرض .. هلى أبقى هنا لأدفن بين الأنقاض ، ولا أحد يعرف مقرى ..؟  وسمعت حركة السكان ، وهم يجرون إلى السلم ، فنزلت مع النازلين إلى المخبأ ..
       وكان الناس يتدافعون فى هذا المكان الضيق بالمناكب ، واختلط كلامهم بصياحهم ، وكان أشد ما يغيظنى صياح النساء كلما أرعد الجو وأبرق ، وزلزت الأرض زلزالها ..
       وظهرت الطائرات بوضوح ، وهى تنقض على أهدافها وخيم على الناس الصمت .. وانهمرت القنابل على ضوء المشاعل ، فبرقت العيون ، واحتبست الأنفاس فى الصدور، وتطلعت الوجوه إلى الوجوه .. كان كل إنسان يود أن يقرأ ما يدور برأس صاحبه ، وما دار فى رءوسنا جميعا إلا خاطر واحد .. خاطر رهيب .. ياللهول ..! أحتبست الألسنة فى الحلوق ، وانقطع الهمس ، حتى الأطفال سكن صياحهم .. وفى تلك اللحظة الرهيبة كانت سحب الظلام الكثيف تغشى كل شيء .. واشتد الصمت الرهيب الموحش .. صمت الحشر .. لا همس ولا حس ، حتى القلوب خيل إلينا أنها كفت من الخفقان .. لم تمر علىّ ساعة قط كتلك الساعة .. شخصت الأبصار واعتلجت الأنفاس ، وحتى هؤلاء الذين كانوا يمزحون ويتندرون ويهونون الأمر على النساء ، ويلاعبون الأطفال ، صمتوا وشحبت وجوههم ، لقد شعرنا جميعا بالخطر المحدق .. وفى خلال ذلك الصمت الرهيب .. دوت القنابل من جديد بفظاعة وعنف .. وصاح الجميع فى صوت واحد ، ودفع بعضهم بعضا ، وتعلق بعضهم بأذيال بعض ..
       كان منظر الأطفال يفتت الأكباد ، ولكنا كنا فى ذهول تام عن كل شيء ، كانت الواعية قد شلت تماما.. لم يكن هناك بصر ولا باصرة .. كنا فى الواقع نرى ولا نرى ، كنا كمن أصابه مس أو أحاطت به الشياطين ..
       خيم السكون من جديد .. سكون الرمس .. ثم عاد أزيز الطائرات ، وصوت المدافع ، وصوت القنابل القريبة وهى تتناثر حوالينا ، وتدافع الناس وماجوا ، وأخذ بعضهم برقاب بعض .. وابتأ الغبار يتسرب إلى المخبأ ، واشتد السعال ، وغامت العيون .. ودوى قصف الرعد ، وتصورت أن القنبلة سقطت فى تلك المرة على أم رأسى ..! وفى حالة هياج وجنون كنت أدفع الناس يمينًا وشمالا ، وأجرى إلى الخارج ..
       ولا أدرى ما الذى حدث لهؤلاء المساكين الذين بقوا فى المخبأ .. فلقد سمعت أن قنبلة مباشرة سقطت عليهم ..! ومزقتهم إربا .. إنى لا أعرف ماذا جرى لى وأنا فى الطريق .. فعندما عدت لنفسى ألفيتنى فى المستشفى الأميرى القائم على الربوة الجميلة .. الذى كثيرا ما شيعته بنظراتى وأنا فى طريقى إلى الرمل .. لم أكن أدرى ، وأنا أرميه بنظرة عابرة من قبل ، أن سيتقرر فيه مصيرى ..! لك الحمد يا رباه هل أنا أحسن حالا الآن من هؤلاء الذين خلفتهم ورائى ، ودفنوا تحت الأنقاض ..؟ هل يمكن أن اتذكر بعض هذه الوجوه الشاحبة ..؟ أبدا ..
       رباه .. لقد بترت ساقى ، وانقطعت أسباب حياتى .. ولن أسعى غدا إلى المحكمة .. ولن أدافع عن الإنسانية المعذبة .. ولن يدوى صوتى كما دوى من قبل فى كل مكان .. لقد أسكتته أصوات القنابل ..
       رباه لست بطلا من أبطال القتال ، ولا جنديا جرح فى الميدان ، حتى يمكننى أن أسير فى الشوارع معتمدا على عكازى .. لا .. لم يكن لى ذلك الشرف ، فكيف أسير كما يسير الجنود والأبطال ..؟ 
       أريد أن أبصر النور .. نور الصبح الجميل ، وأرى أشعة الشمس ، وهى ترقص مع موج البحر ..
***
       استيقظت مبكرا ، وحاولت أن أضطجع على السرير ، فقد مضى علىّ أكثر من أسبوع ، وأنا راقد هكذا ، دون حراك ، كأنى جثة أعدت للتحنيط ..! وتحركت قليلا .. وسمعت صوت أول ترام فى الرمل ، وهو يسير إلى مصايف الثغر ..
ثم سمعت صوت الممرضات فى المستشفى ، وصافحت خياشيمى رائحة العقاقير ، وسمعت حركة العربة المشئومة .. وهى تزحف دون حس حاملة كل يوم جديدًا إلى عالم الموتى .. لقد أحسنوا إلىّ بوضعى فى هذه الغرفة المنعزلة عن المرضى ، فإن وجودهم معى يثير أعصابى .. لم أكن فى يوم من الأيام أشعر بالشفقة نحو المرضى أو العاجزين ، كان قلبى قد قد من صخر ، وكنت أعجب بالقوة أينما وجدت .. كما أحسنوا إلىّ بمنع الزيارات عنى ، فما أحب أن أرى إنسانا .. ما كنت أن أشاهد هؤلاء الحمقى ، وهم يلقون العبارات المكررة التى يحفظـونها عن ظهر قـلب ، والتى تثير الشجون ..! ثم النساء وهن يرسلن العبرات .. تبا لهن  ..!
       لم يعد لى عيش فى المدينة .. وبعد أيام سأذهب إلى مزرعتى فى الريف .. سأقيم إلى نهاية حياتى بين هؤلاء الفقراء البسطاء الشرفاء ، الذين سيعظمونى ويكبروننى ، رغم ضعفى ، ولن ينظر إلىّ واحد منهم نظرته إلى مسكين ، إنهم يعرفون ، ولا أحد يعرف مثلهم ، حكم الأقدار ..
=================================== 
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
================================




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق