الأربعاء، 22 أبريل 2015

رجل مريض



رجل مريض

       عرفت توفيقا أفندى من عهد الحداثة ، وكان رجلا حائراً ، دمث الطباع ، لين الجانب إلى حد الخور .. ولهذا ظل فى الأرض على غير هدى ولا أمل ، ويعيش على هامش الحياة أبدًا .. وساءت حاله ورق عيشه على مر السنين ، إذ لم يكن يستطيع أن يؤدى عملا بعينه ، حتى على أضعف وجه .! فكان أبدًا برما بالحياة قلقاً نزاعا إلى القنوط ، يتصور أن العالم كله يحاربه فى رزقه ، وأن شياطين الأرض ، وملائكة السماء تتعاون على سحقه ..! .. اشتغل مدة من الزمن مدرسا فى مدرسة أهلية ، ثم اجتوى هذا العمل بعد أن تبين أن عليه أن يستيقظ كل صباح قبل السادسة ..! وعمل فى إحدى الصحف اليومية ، ثم رأى أن هذا العمل يستغرق جل نهاره ، وبعض ليله ، فنفض يده منه ، وركن إلى الدعة ، وعاد يتشرد ..! وثبت فى إحدى المكتبات العامة ، وكان هذا العمل منتهى مناه ، على أن القلق كان دائما ينزع به إلى التمرد ، فترك هذا العمل وفى نفسه حسرات .. وسمعت بعد ذلك أنه لم يزاول عملا بعينه ، وأنه ظل كالطائر المهيض الجناح ، يزحف على ساقيه كلما شعر بحاجة بطنه إلى الطعام ..
       وكان قد تزوج منذ عامين ، ودفعه الزواج فى أول الأمر إلى النشاط والحمية .. ثم فاء إلى نفسه وطبعه وعاد يتبطل ..!
       وكان يزورنى فى منزلى الصغير فى ضاحية من ضواحى القاهرة ، عصر كل خميس ليرتب مكتبتى ، ويحمل لى ما يتسوقه من الكتب القديمة .. وكان للرجل ولع غريب بنظام المكتبات ، وكان يقول لى إن الفقر هو الذى قعد به عن السفر إلى ليبزج ليدرس فن الطباعة ، ونظام المكتبات ، وكان يعرف أننى رحالة جبت كثيرًا من البلاد ، ولهذا كان يستمع إلىّ وأنا أصف له ما شاهدت فى أوربا بعين شكرى ، وكان يقول لى إن أمنيته الوحيدة هى أن يدخر بعض المال ليسافر ويحقق رغباته .. ولكنه كان عاثر الجد أبدًا لا تتحقق له أمنية .. وكان يقول لزوجه إن الله رماها به ليمتحن إيمانها .. وأنه من نكد الدنيا أن تقع زوجة جميلة مثلها فى بيت رجل معدم مثله .. على أن زوجه كانت تطيب خاطره وتقول له إنها سعيدة بفقره ..
       وكنت أسمع عن هذه المرأة كثيرا ، وأعرف أنها آية الله فى خلقه ، وأنها مع جمالها ونضارتها ، حسنة التدبير ، تصنع له الغذاء الكامل بقروش قليلة ، وتعينه على الحياة البسيطة ، وتدفعه دائما إلى العمل ، ولكنه كان حائرا ، ضعيف العزم مترددا لا يستقر على حال ..
       ولما قامت الحرب أغرته امرأته بالتجارة فتاجر .. ولكن الحظ العاثر ، وضعف الحيلة لازماه ، فأفلس بعد شهور قليلة من عمله .. ولعله التاجر الوحيد الذى أفلس فى هذه الأيام ، وكادت هذه الضربة تكون قاصمة الظهر له ، لولا أنه تجلد وتماسك واستسلم لأمر ربه ..
***
       وكان قد انقطع عن زيارتى بعد إفلاسه ، حتى تصورت أنه قضى ، أو انتحر ، وإذا به يزورنى فجأة فى ليلة من الليالى ، وهو على حال من التعاسة لا تصور .. كان رث الثياب ، زرى الهيئة ، ضامر الوجه أصفره . وعلى جبينه خطوط وأخاديد ، وحول عينيه دوائر زرقاء .. ومن فمه تفوح الخمر .. وجلس أمامى صامتا على غير ما ألفته .. وكنت فى كل مرة يزورنى فيها لا أحفل به كثيرًا ، أتركه يعبث فى الكتب بعد أن أقدم له القهوة .. وأعود لعملى .. وكان يعرف أنى بطبعى رجل مستفرد صامت لا أحب الثرثرة ، ولا أصبر على مجالسة ثرثار ، ولهذا كان يغب فى الزيارة ويقصر .. ولكننى فى هذه المرة احتفيت به على غير عادة ، وأخذت أرد عليه بعض مرحه الذاهب ، وأتلطف معه فى الحديث مداعبا .. ولكن الرجل كان على غير استعداد لذلك .. كان كأنما أصابته ضربة قوية على يافوخه فظل مطرقا لا ينبس ، فتركته على حاله ، وعدت إلى كتبى ، واستغرقت فى المطالعة حتى نسيته .. ثم سمعته على حين غفلة ينادينى ، فرفعت وجهى عن الكتاب .. فألفيته واقفا فى نهاية الغرفة ، عند نافذة صغيرة تطل على النيل ، وعلى وجهه ابتسامة عريضة ..! فنظرت إليه مدهوشا ..! وسمعته يقول :
       - نسيت يا أخى .. أن أقول لك إن نعمات هانم تسلم عليك ..!
       فسألته :
       - ومن هى نعمات هانم هذه ..؟ 
    - زوجتى .. يا أخى ..!
       ففتحت فمى من الدهش .. واستطرد وهو يقول :
       - كانت تقول لى دائما .. لماذا لا تجئ بصادق أفندى .. لماذا لا تدعوه إلى زيارتنا مرة .. سأصنع له فطيرة من التى يشتهيها بقلبه .. ولكنى كنت يا أخى أخجل من أن أحدثك برغباتها ، لأنى أعرف أن وقتك من ذهب .. ولهذا كنت أتردد فى هذه الدعوة .. وعلى الأخص لأن منزلى بعيد .. فما الذى يدعوك أن تنتقل من هنا إلى أقصى روض الفرج .. لتزور إنسانا مهملا مثلى .. ولكنها كانت تلح علىّ أبدا ، لأنها تسمع عنك كثيرا .. وتود أن تعرفك .. ولهذا فكرت فى الأمر على وجه آخر .. أنسب لك .. فقلت فى نفسى أن صادق أفندى يعيش وحده عيشة مرة .. مستفردة .. ولا يجد من يصنع له طعامه .. فإذا جاء بخادم لا يمكث عنده أكثر من أسبوع لأنه يسرق ملابسه وكتبه ويهرب .. وحياته الغريبة تغرى الخدم بالسرقة .. وكيف لا يسرق الخادم وهو لا يرى سيده إلا فى ساعات قليلة من النهار .. ولهذا قلت لماذا لا تجئ نعمات .. إلى هنا .. لتصنع لك طعامك وتهيئ فراشك وتقوم بكل ما يلزمك .. لماذا لا تفعل ذلك .. والآن ما رأيك يا أخى فى أن تجئ من الغد ..!
       فأطرقت برأسى ، ولم أكن أتصور أنه يصل إلى هذا الحد من التدهور .. وبدا لى فى صورة نكراء بشعة .. وكانت عيناه قد لمعتا وابتسامته غدت أبدية ، ورائحة الخمر تفوح منه بشكل مقزز .. واتخذ هيئة الرجل النافض يده من أعباء الحياة جملة ، والذى استهتر بكل شيء ، وما عاد يحفل بأمر ..
       وتقدمت إليه .. ووضعت يدى على عاتقه .. ونظرت بقوة إلى عينيه وقلت له :
       - أنا أعرف أنك تمزح .. لقد دارت فى رأسك الخمر ..
       فأطرق لا ينبس ، وظل على ذلك مدة طويلة .. ثم أخذ جسمه ينتفض ، واستخرط فى البكاء .. وانتابته نوبة عصبية .. فتركته على حاله حتى تهدأ ثورة أعصابه ويثوب إلى نفسه ..
       ومضت لحظات صامتة كئيبة شديدة الوقع على النفس .. ثم رفع وجهه إلىّ وكانت عيناه تفيضان بالدمع .. وقال بصوت خافت :
       - لا تصدق ما قلته لك يا أخى .. عن زوجتى .. أنا أعرف أنك كريم النفس .. لا تقبل ما عرضته عليك .. ولذلك لذ لى أن أمثل هذا الدور أمامك .. ولا يمكن .. ولا تتصور أننى أقول هذا الكلام .. لأى إنسان آخر .. إنه الفقر يا أخى الذى يقتل كل شيء فى الرجل .. كل الإحساسات النبيلة ، التى تقرأ عنها فى بطون الكتب ، يقتل فيه ، الكرامة ، والرجولة ، وكل ما يتميز به الإنسان .. فيستجدى .. ويتدهور إلى ما رأيت .. ويجعله أحيانا أجبن من كلب ..! وأحيانا أخرى يغريه على التوثب والتوحش ..
       ووضعت يدى على عاتقه ، وأخذت أحادثه ، وأطيب خاطره ، حتى سكن ثائره ..
       وخرجت معه إلى بعض المطاعم فتعشينا ، وملأ معدته الفارغة ، وابتعت له هدية جميلة لزوجه ..!
       وتركنى وهو مسرور طروب .. ووعدنى بأن يسافر ، بعد الحرب ، إلى ليبزج ليدرس فن الطباعة ونظام المكتبات ..
ــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
____________________________ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق